ثلاثة مشاهد من لندن

ثلاثة مشاهد من لندن

اكتبي عن إقامتك في لندن! قال تمّام.


لم أرغب بذلك في البدء، إذ بدا لي أن الحديث عنها اجترارٌ لاستعراضِ النواقص مقابلَ الكمالِ المتمثّل في ذلك الغرب بعيد المنال عن شاربِ أحلامنا. وهذا الحديث، على صحته، وعلى قابليته لتجديد مضمونه، والتدليل عليه، صار كالظِّفر الذي يعبر على جلدٍ ميت، يخدشُ ولا يؤلم، إذ تبلد شيء من الشعور العام حيال هذا الفارق، واستقر فيه كأمرٍ واقع، وأصبحَ في الغالب ذريعة للتندر أو اللغو.


لذلك قرّاءَنا العربَ الأعزّاء، دعكم مما ينقصنا وخذوا –كرمى لعيونكم- شيئاً ينقصهم، كنتُ أبحث عنه طوال الوقت، ذلك أنني كنت في بلدٍ عريق، غير مصنوع أو مستحدث، غير أني لا أعرف ما اسمه ذلك الذي كنت أبحث عنه، لذلك سأحاول توصيفه في بضع مشاهد، أو مشاهدات، علّنا نعثر عليه سويةً.


مشهد 1: كنتُ أجلسُ في صف اللغة الانجليزية عندما حاولَ المدرّس شرحَ كلمة (Canal/قناة) لأحد الطلاب اليابانيين معطياً أمثلة، أضفت أنا لها من باب المشاركة، أو قل الفذلكة، قناة السويس، عندها نظر الأستاذ إليّ مبتسماً وقال: نعم، قناة السويس، ثم صمت لحظاتٍ وقال التي بنيناها، يقصدُ الانجليز. انبريتُ للرجل بكل ما أوتيت من إنجليزية، وأنا والله ما أوتيتُ منها إلا قليلاً: «بل التي بنيناها نحن، ومات أبناؤنا لأجل بنائها». ورغمَ أنني لست قارئةً جيدة للتاريخ، لا أعرفُ عن بناء القناة وتأميمها الكثير، لا طولها، ولا قيمتها الاقتصادية الفعلية، لا مشروعاتها المصاحبة، ولا مستقبلها، إلا أن صوراً من خطاب عبد الناصر في التأميم وأغنياتٍ وطنية صارت ترن في أذني كطبول حرب، جعلتني أتلبس دوراً بطولياً غاية في الدرامية، وصرتُ أشحن في ذهني ردوداً وشروحاتٍ حول غطرسة الاستعمار، وأستعدُّ لنقاش عصبي كتلك النقاشات التي نستهلكها وتستهلكنا في منطقتنا العربية. كنتُ أستعدُّ فعلياً لسحق هذا الرجل، لتحقيق انتصارٍ شفهي كتلك الانتصارات التي نحققها بفخر على طريقة «الاتجاه المعاكس». لكنه قطع علي كل هذا بابتسامة انجليزية هادئة وأجابني: لا بأس، لم أقصد إزعاجكِ أبداً، أنا آسف.


مشهد 2: على لوحة مخصصة للطلاب الذين جاؤوا من أنحاء العام لتعلم الإنجليزية الأكاديمية، كتب الطلاب عباراتٍ للحب والجمال والسلام بكل لغات الدنيا، بأحجام مختلفة كان أكبرها (NO RACISM/ لا للعنصرية)، فيما اختار عددٌ من الطلاب العرب أن يكتبوا بالعربية، وبخطٍ كبير جداً: «لا إله إلا الله.. محمَد رسول الله». فكرت بأن أحداً لم يسألهم عن رأيهم بهذا الشأن، ولم أُفصح أننا نجهد دائماً في إثبات ما نحن في شك من أمره، لم أقل شيئاً.


مشهد 3: لا أغنيات وطنية في التلفزيون، أو في الإذاعة صباحاً، ولا مقاطع فيديو تُصوِّرُ المسؤول وهو يفتتح المصنع أو المشروع، تَحُفّه باستخدام الغرافيكس أعلامُ بريطانيا، وفي المؤثرات الصوتية أغنيةٌ تمجد إنجازات المرحلة، وتندد بالعدو المتربّص. ليس عند الإنجليز رومانسية أو شجن في علاقتهم بوطنهم، لا ضوضاء تصحب فعل المواطنة، لا رموز وطنية، لا شعارات خالدة، ولا خداع من السلطات، ولا نفاق شعبي، إذ لا تستدعي المواطنة لديهم كل هذا. إنجليز: شقر، سمر، شرق أوسطيين وشرق آسيويين، كلهم، ما إن يفتحوا فمهم بالحديث، حتى تسمعهم يلحنون الإنجليزية بموسيقى اللكنة البريطانية، يعملون بجد، يدفعون الضرائب، ويحصلون مقابلها على خدمات تعليمية وصحية، ورواتب تقاعدية، وخدمات دفن عند الوفاة. لا يتسامحون في هذا، ولا يمكنك أن تضللهم بأغنية وطنية عاطفية، يسمعها أحدهم فيرق قلبه ويتراجع دامع العينين متنازلاً عن طيب خاطر عن حقه في خدمات أموال الضرائب، وليس العكس صحيحاً بالطبع.


حسناً، ما الذي يجمع كل هذه المشاهد/ المشاهدات المتفرقة، ما الذي ينقص هؤلاء؟ ينقصهم أن ينشغلوا أكثر بحل إشكالات تاريخية عظمى، على طريقة الحسين/يزيد، ينقصهم انتماءاتنا المتشنجة، أغنياتنا الوطنية التحشيدية وشعاراتنا «اللي عمَال على بطال»، ينقصهم رموزٌ وطنية، وأشخاص يتقاتلون لأجلهم، ينقصهم الولاءات المتعددة دينياً وطائفياً ومذهبياً وقبلياً وجهوياً، مع لمحاتٍ من الرومانسية والأغنيات والقصائد، التي تضفي لهذا كله لمسةً عاطفية وشجناً يجعلهم مشحونين على الدوام متأهبين للانقضاض على الآخر، أو على أنفسهم إن استدعى الأمر!


ينقصهم كل هذا، ليصبحوا مؤمنين صالحين، ووطنيين غيورين، مثلنا تماماً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +