قاتلٌ ومُتشفٍّ

قاتلٌ ومُتشفٍّ

تركَ تخبّط الأداء السياسي للمعارضة السورية منذُ مطلع ثورة الشعب السوري ضدّ نظام بشار الأسد قبل زهاء خمس سنوات، أثرًا على المزاج العام لدى السوريين، الذين ما عادَ بإمكانِهم التفاؤلُ بموقفٍ يصدرُ بينَ الحين والآخر عن أيّ طرفٍ من أطراف المعارضة أو التعويلُ عليه، لا سيّما الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وتاليًا الهيئة العليا للمفاوضات، والتي أنيط بها الجلوس مع ممثلي نظام الأسد على طاولةِ حوارٍ في جنيف لإيجاد مخرجٍ لما أصرّ المجتمع الدوليّ على تسميتهِ بالـ «أزمة السورية».


الأداء المترهّل للمعارضة، والذي إذا أردنا توخّي العدل في إطلاق حكمنا عليه، لا تتحمّلُ مسؤوليتهُ الكاملة، سياسيًا على الأقل. إذ باتَ معروفًا ومكررًا أن العالم بأسرهِ أخذ موقفًا موحّدًا على الصعيد العمليّ تجاه الشعب السوريّ وثورته. على أنّ السوريين في غالبيّة معارضيهم، يحمّلونَ المعارضة المسؤولية الأخلاقية عن هذا الأداء. الأمرُ الذي لا جدالَ في أحقيته، فمن الواجب على كلّ من لا يمتلكُ قرارًا مستقلًا يستطيعُ من خلالهِ أن يعبّر عن حقوق الناس وطموحاتهم، أن يعترفَ بفشلهِ أو بعدم قدرته على الاستمرارية والتنحّي جانبًا مع اعتذارٍ علنيّ يرافقُ ذلك الاعتراف. وهذا أضعف الإيمان.


بينَ موقفٍ كان مؤيّدًا الذهاب إلى جنيف 3 وإن بشروطٍ أمريكية روسية وإيرانية، ومن ثمّ حمّل المعارضة مسؤولية فشل المفاوضات، ذريعتُهُ أنّ سوريي الداخل وسوريي المخيّمات في دول اللجوء المحيطة، يريدون حلّا لمأساتهم الحالية مهما كان الثمن، نظرًا لما يتعرضونَ لهُ من شروط حياةٍ لا إنسانية. وموقفٍ آخرَ كانَ معارضًا الذهاب إلى مفاوضات جنيف بشروط الأسد ومتوقّعًا ما آلت إليه، معتبرًا إياها (أي المفاوضات بالشروط تلك) تفريطًا بالحقوق، وصكًّا لتعويم الأسد مجددًا وإعادة إنتاج لنظامه، وباعتراف صريحٍ من المعارضة هذه المرّة. بينَ هذين الموقفين انقسم السوريّون، قبيلَ الاجتماعات التي رفضت هيئةُ التفاوضِ العليا المشاركة فيها وفقَ الشروط التي كانت مطروحة.


وبينَ هذا التخبّط والجدل الصحيّ القائم، تبرزُ أسئلة بسيطة تجدرُ الإجابةُ عليها، من بينِ هذه الأسئلة التي ترقى إلى المفارقات، السؤال الذي تركتهُ عبارة مثيرة للضحك أفصحَ عنها المبعوث الأممي ديمستورا مفادُها أنّ «مفاوضات جنيف 3 ستُعقدُ بمن حضر». والسؤال، مع من كانَ سيتفاوض نظام الأسد في جنيف في حال غياب هيئة التفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض، والذي حظيَ بدوره برعايةٍ واعترافٍ دوليين؟ في حالةٍ كهذي، يبدو أنهُ كان من الأفضل توفيرُ تذاكر السفر وحجوزات الفنادق وتكاليف الإقامة، خاصّةً أنّ السيد ديمستورا لا بدّ يعلمُ أنّ جنيف تعتبرُ من المُدن الأغلى في العالم!


سؤالٌ آخر يطفو على السطح هذه الأيام، يتعلّقُ بالسوريين أصحاب الموقف الأول، أي الداعم الذهاب إلى جنيف تحت أيّ شروط، والمُحمِّل المعارضة مسؤولية فشل المفاوضات. حيثُ، إذا كانَ الاعتقادُ السائدُ بينهم أنّ الذهاب قد يحلُّ مأساة اللاجئين في المخيّمات، ويعيدُهم إلى أرضهم، وإن ليموتوا فيها، فما الذي يمنعُ هؤلاء السوريين أنفسهم من العودة فورًا، وعبرَ المعابرِ الرسمية، والاعتذار من نظام الأسد ومتابعة الحياة وفقَ شروطه، وهوَ أمرٌ متاحٌ طبعًا لمن أراد، وثمّة أمثلة تدلّ عليه؟! ما حاجةُ الذينَ يريدونَ الحياةَ بشروط الأسد وحلفائه إلى المفاوضات؟ على ماذا يتفاوضون؟!


لا يحتاجُ الجوابُ لبديهيةٍ استثنائية، إذ إنّ ما يمنعُ السوريينَ من العودة وفق شروط الأسد، هي كرامتهم وحسب، كرامتهم التي فضّلوها منذُ يوم 18 آذار 2011 على الحياةِ بدونها. هؤلاء الناس، أُخرجوا من بلادهم وحيواتهم لأنهم طلبوا الحفاظَ على كراماتهم، ومن الخطأ والإجحافِ الظنُّ أنّهم يقبلونَ الاستغناء عنها كُرمى لحياةٍ في ظلّ حكمِ الأسد.


صباحَ اليوم الذي كان مقررًا فيه أن تبدأ المفاوضات، كان الخبر الأخير في موجز التاسعة صباحًا بتوقيتِ دمشق، على إذاعة شام أف أم التابعة للنظام، أنّ السويد أعلنت أنها ستُرحّل ثمانينَ ألفَ لاجئٍ من الذين رُفِضت طلباتُ لجوئهم في العام 2015. لم تذكر الإذاعةُ طبعًا، أنّهُ ليسَ من سوريينَ بين هؤلاء الثمانين ألفًا، إذ إنّ السوريين يتحصّلونَ في السويدِ على إقاماتٍ وإن مؤقتةً لثلاث سنوات أو سنةٍ واحدة. أي أنّها حتى في أسوأ الحالات لم تقل إنها ستقوم بإجلاء أيّ سوريّ عن أرضها. عدم ذكر هذه المعلومة لم يكن عبثيًا، أرادت شام أف أم أن تقول للسوريين: هذا ما سيجري لكم. كلّ العالم يقفُ في صفّنا!


وإذا كانت الجملةُ الأخيرةُ تبدو صحيحةً من الناحية العملية، أي أنّ العالم كلّهُ يقفُ في صفّ النظام، إلّا أنها أيضًا تعطي انطباعًا لآلية تعاطي النظام وإعلامه وأتباعهِ مع السوريين حتّى هذه اللحظة.


إلى هؤلاء، الذينَ لا يكتفونَ بقتلِ معارضيهم، بل ويمارسونَ بفاشيّة منقطعةِ النظير التشفّي بموتِ بقيّة المعارضين ممّن فرّوا من قنابلِهم وأسلحتهم البيضاء والكيماوية، إلى هؤلاء الناس، سيعودُ سوريّو المخيّمات ليتخلّصوا من معاناتهم القائمة، وفقَ جنيف 3 بشروط الأسد.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +