الموت لفينوس

الموت لفينوس

في المدى الرحيب للالتباس بين اللون والرخام رقص مايكل أنجلو طويلاً، شاسع هو صراخ الإزميل وفادح هو صمت الفرشاة، مع هذا فلابدّ للروح من الرقص على جدران الجنون، ولا بأس أن يشهد دانتي عقد القران بين الصخرة والتمثال أو اللون والجدار، ويضحك من فرط ما ضحكت الآلهة في الكوميديا، وحبذا لو حضر أفلاطون ليرى كيف منح مثاله المشتهى جسده للرخام.


لست أدري لماذا أكتب عن مايكل أنجلو في هذه الساعة المتأخرة من غفوة الأبد على ضريح اللون والرخام.


لعلها فكرة رغبت بالتعري على مساحة شاسعة للبياض، أو لعلها ورطة الحبر الأبدية مع الورق أو إنه المكان الذي أراد أن يصل رحمه، المكان الذي قذفتني إليه يد الصدفة، صدفة لها خيار أن تكون يد القاتل، أو يد الزعيم الذي قهقه لمشهد الشعب وهو يلغ وعاء الكلب فقال: المهم أن تكون هيبتي بخير.


هنا في ألمانيا على مرمى اغتراب من مايكل أنجلو جلست وحيدة، أرقب مثله تماماً كيف جاء عابد النار ليغطي عورة فينوس.


كخراف إيطاليا وهي تشهد ولوج «المعمم» بهو الفاتيكان الذي لم يكلف قداسته عناء لو صرخة في وجه ذات «المعمم» الذي هتك ستر شعبي.


حين تم استدعاء مايكل أنجلو من قبل البابا للعمل في كنيسة سيستاين قبل نحو خمسة قرون من نزف الرخام، أوكل إليه أن يعيد زخرفة الحائط فوق المذبح، قرر أنجلو أن يعيد بالرسم اقتراف العالم. وهذه كانت اللحظة التي ولدت فيها مولودته (يوم القيامة) وهو الاسم الذي اقترحه لملحمته اللونية على مذبح الكنيسة.


تكلم اللون عن نبوءة عودة المسيح قبل نهاية العالم، في اللوحة صورة للمسيح يضرب الشيطان بيده، وبيده الأخرى يطلب له الرحمة والمغفرة، وفي جوار المسيح كانت مريم العذراء تشهد انبثاق حشود الموتى من الكهنة والصالحين صاعدين نحو الجنة وهم بكامل العري.


حينها احتج الكرادلة على عري الحشود ونظموا حملة شعواء للإطاحة بأنجلو بتهمة إهانة الكنيسة، لكن البابا قرر أن يبقي على دهشة روحه العارية أمام فداحة اللون في مشهد الجحيم


قرر أن تبقى الصور كما هي و قال عبارة مشهورة: «لا صلاحيات لمحكمة الفاتيكان في منطقة الجحيم».


في كنيسة سيستاين نفسها وعلى السقف هذه المرة نقش مايكل أنجلو (خلق آدم) اللوحة التي تُعدُّ إحدى قمم الفن، ليس في عصر النهضة وحده فحسب، بل في تاريخ الفن كله.


رسمها لتكون أكبر وأجمل ما هو موجود من لوحات على سقف الكنيسة، وفيها جسّد تصوَّره لقصة خلق الإنسان كما ورد في أناجيل العهد الجديد، فهل سيغطي الفاتيكان عورة آدم كي لا يخدش حياء سفير الولي الفقيه؟


كثيراً ما تساءل المؤرخون عن أعراس اللون في إيطاليا، كيف حدث وحملت فرح اللون في عصر النهضة دون غيرها، يجيب بعضهم أن الفن ذهب مع المال جنباً إلى جنب إلى إيطاليا حدث ذلك بعد الفورة الاقتصادية التي حصلت هناك كناتج للتبادل التجاري بين أوربا وآسيا فاحتفل الفن بميلاده الأجمل والأشهى سافراً منتشياً بمرأى الجسد العاري، الجسد الذي عدّه أنجلو بجماله وانكساره هو الحقيقة الضائعة التي يحسن بالفن أن يطرق عوالمها.


اليوم يعود التاريخ ليتكور على ذاته، يعود واقفاً على رأسه منكس الرايات، يعود كي يغطي عورة الفن، من أجل أن يمر قطار الدم والمال، هذه المرة سيهدي الفاتيكان جلبابه إلى فينوس.


شهد العام 1487 ميلاد واحدة من أعظم منجزات الفن وهي لوحة رسمها ساندرو بوتشييلي وهو أحد عظماء عصر النهضة، وقد عمدّها باسم (ميلاد فينوس) آلهة الحب والجمال لدى الرومان، تصوّرُ اللوحة عري فينوس وهي خارجة للتو من البحر.


ماذا لو خرجت فينوس من جديد، وتجلت لعابد النار بكامل عريها، من سينقذ حياء المُعمّم من عورة الآلهة.


بعد مجزرة بوذا على يد طالبان، أقدم شقيقها داعش على مجزرة أعظم أدمت الفن والتاريخ، فحطمت كل ما وقعت عليه يدها في الموصل وتدمر.


اليوم يطالب حسن روحاني فينوس أن تستر عورتها، كي يدخل الفاتيكان بكامل البربرية، ولا ينسى الفاتيكان أن يكرم وفادة الضيف.


روحاني وداعش وجهان لعملة الموت ذاتها، واحد يحجب والآخر يدمر، كلاهما يصرخ: الموت لفينوس.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +