طيرتُ أحلامي معك، ورميتها أوجاعاً

طيرتُ أحلامي معك، ورميتها أوجاعاً

*رسالة ابنة معتقل.


حينما تم تسريب مجموعة صور عن تعذيب المعتقلين في معتقلات النظام السوري، حاولنا في عائلتي إخفاء الموضوع عن أختي وأطفالها بكل الطرق الممكنة، ففي ذلك الوقت كان قد مرّ أكثر من ثلاثة أشهر على اعتقال زوج أختي لدى المخابرات الجوية في حلب، دون أن نتمكن من معرفة أي خبر عنه.


كانت مجرد فكرة وجوده لدى المخابرات الجوية تُفضي بنا جميعاً إلى احتمال موته تحت التعذيب، طالما أنه لا خبر عنهُ. ذلك الاحتمال الصامت كان يدير مفتاح الأسى والبكاء الدائم في عينِ أختي وأطفالها، الانتظار الذي يشابهُ حكماً بالإعدام، كل ذلك كان كارثياً بكل معنى الكلمة، بكاءُ طفلها الصغير شبه اليومي قبل النوم طالباً حضور والده، عجزُ أختي عن إسكاتهِ وطرد اليأس من قلبها، كل ذلك الجحيم الذي لا يعرفهُ أحدٌ سوى عائلات المعتقلين، عشتهُ مرّة أخرى هنا في ألمانيا مع «لُجين» الطفلة السورية اللاجئة التي تعرفتُ عليها في أحدى كامبات برلين. «لجين» كانت ابنة معتقل لدى النظام الأسدي في دمشق، غامرت عائلتها بسفرها وحيدة مع خالتها علّها تكون المنقذ لباقي أفراد الأسرة من جحيم الحرب والانتظار في مدينتها. «لجين» لم يكن يتجاوز عمرها عشرة أعوام حين أخبرتها والدتها أنها إن تصرفت كصبية كبيرة، وقبلت السفر مع الخالة سيكون بإمكانها لمّ شمل العائلة بأكملها، وحتى ذلك الحين سيكون والدها قد خرج من المعتقل أيضاً وسيلحقون جميعاً بها، لذا كانت لجين دائمة الابتسام مقارنة بطفلة وحيدة وصغيرة، فلقد كانت لديها مهمة إنقاذ العائلة، لم يكن يمرّ يوماً إلا وتسألني: متى تأخذ الإقامة ليكون بمقدورها إحضار عائلتها، إحساسها العالي بالمسؤولية كان أكبر من عمرها الطري، ثقتها الأكيدة بخروج والدها قريباً من المعتقل رغم أن غيابه وانقطاع أخباره تجاوز عاماً ونصف، كل ذلك جعلني أؤمن بذاك الأمل الذي على حافة الهاوية. أجل لم لا؟ خاصةً وأنا أراها تلبسُ ذلك الجاكيت الزهري كل يوم، حتى عندما اشترت ثياباً جديدة. ذلك الجاكيت الذي اشتراه لها والدها قبل اعتقاله، والذي كما كانت تقول: بابا كان بحب هل الجاكيت عليّ، وبدي لما يطلع من السجن ويجي لهون يشوفني أنوا بعدني لابستوا». كنتُ أضحكُ معها كلما ذكرت لي حادثة شراء والدها لذلك الجاكيت، وحبه له عليها، وإصرارها على ارتداءه رغم قدمه وصِغَر قياسه عليها. أضحكُ لها رغم أن المشهد بأكمله مثيرٌ للبكاء فقط، في غربة إنسانية أقسى أن تتحملها طفلة تعيش ألم غياب الأب بصبرِ الكبار، فلقد كنت كعائلتها شبه يائسة من بقاء والدها حياً في المعتقل بعد كل هذه المدة من انقطاع أخباره، فأي انتظارٍ هذا، هل حقاً هناك أمل بعودتهِ وخروجه سالماً من معتقلات التعذيب الوحشية التي تديرها أنظمة مخابرات الأسدية التي لم تعرف الرحمة والإنسانية يوماً. ليسَ بالأمر الجديد الجرائمُ التي ارتُكبت وتُرتكب هناك بتلك الأقبية سراً وعلانية، فمن منا نسي الصور المسربة عن التعذيب والقتلى في المعتقلا ، من يثق بأن هناك من ينجو من تلك الحملات الممنهجة لسلخِ الجلد البشري عن المعتقل، كيف ذلك مع والد هذه الطفلة الذي يبدو ضعيف البنية كما يبدو من صوره. فقط لجين كانت واثقة أن والدها سيعود ليشاهدها بالجاكيت الزهري الذي يحب، لجين التي حتى عندما شاهدت كل أفراد عائلتها يضعون صورة والدها على سجلات الواتس أب وعليها إشارة سوداء مع جملة «إن لله وإن إليه راجعون»، مؤكدين نبأ وفاة والدها في المعتقل، لم تصدق الأمر، وظلت تلبسُ الجاكيت الزهري وتنتظر عودة والدها، ظلت تبكي أمامي وتطلب مني أن أكذب الخبر، أنا التي لم أستطع تكذيب شيء فضممتها لقلبي وبكيت معها بكل العجز الذي يعيشه السوريون في المنافي والبلاد على حدٍ سواء. حتى عندما اشتروا لها جهاز أيباد ليرضوها وينسوها خبر موت والدها في المعتقل وهي بعيدة ووحيدة، ملأت جهازها بمقاطع فيديو لوالدها التي نقلتها من فلاشتها، كان جهازها يمتلئ كل يوم بصور والدها، كل أيقونة وكل تطبيق يحمل صورة والدها. هذه الطفلة لم تيأس أبداً من عودة والدها، كانت تتحدث معي كما لو كان لا يزال حياً في المعتقل وينتظر خروجه ليلحق بها، كانت كل تصرفاتها قائمةً على هذا الافتراض، البيت الذي ستختاره، غرفة والدها، الحديقة التي ستكون فيها ألعاب لتلعب معه، والسؤال الأبدي: متى سأحصل على الإقامة لأحضر أمي وأبي.


حالة «لجين» ليست الوحيدة في بلادٍ كبلادنا، بلادٌ لم تكن وطناً يوماً لأبنائها، لكنها أعادتني لما عاشتهُ عائلة أختي وما تعيشهُ كل عائلة سورية لديها معتقلٌ لا تعرف عنه شيئاً، لدى معتقلات النظام الوحشي الذي لا يزال بعد ٥ سنوات من التدمير يريد البقاء والمفاوضة باسم السوريين. كلما تذكرتُ الألم ذاك أتأكدُ أنه يجب أن لا نسامح هذا النظام على ما خلفه في حياتنا من ندوب غير قابلة للنسيان. هذا النظام الذي تفنن في تشويهنا وتدميرنا بالانتظار والألم واليأس والصمت، لا يجبُ أن ننسى من لا يزالون هناك خلف تلك المعتقلات يتعرضون كل يوم لشتى أنواع التعذيب الرهيب، ليس جميعهم لديه طفلةٌ كلجين لتتحدث عنه، لا ينتظرُ الجميع الأموات كما تفعل لجين، فعندما انتقلت لمكان آخر ومضت أشهر طويلة دون أن أعرف عنها أي أخبار، بحثتُ عن اسمها في سجلات الواتس آب لدي، فتحتُ أيقونة اسمها، لا تزال صورة والدها في الأيقونة وتحتها الحالة التالية: «طيرت أحلامي معك ورميتها أوجاع، بحبك أنا وعم أقنعك دخلك ع عمري رجاع. بابا اشتقتلك كتير يا ريت ترجع». قرأتُ حالتها هذه على مدار أيام وكنت أتسأل كل مرة: هل كانت تلبس الجاكيت الزهري حينما كتبت هذه الرسالة لوالدها! هل كان والدها يقرأ رسائل ابنته الصغيرة من مكانه البعيد، أم تراه لا يزال غارقاً بأوجاع التعذيب وروحه تحوم حول القتلة هناك في المعتقل في دمشق.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +