يوم في كيليس

يوم في كيليس

الحرية أن تقف كَسِلاً على حافة الحياة، تغسلُ وجهك بهدوء، وتشرب قهوتك على الشرفة، دون أن تُعير ذهنك لأسماء الوفيات المطلة عليك من هاتفك، ثم تخرج إلى الشارع بلا بطاقة شخصية.


لسْتَ قلقاً من انتمائك أمام كل السارقين من: «بائع البقدونس» حتى «أكبر رأس في هذا البلد»، وتعرفُ وقتها أنك ربما تبدأ حياتك وأنت حي.


في الطريق تغتالك التناقضات والأسئلة، بين ذاكرةِ «لا تبول هنا يا ابن الحرام .. هنا ذاكرتي» و«أرجوك.. قف للبكاء». بين أعينٍ مليئة بالكحل، وغطاءٍ لنصف الوجه يختص بإساءات الوقت، وطفلٍ يتبع علبة «بيبسي» في يدك.


بين رجلٍ يتساءل عن سبب الزحام هناك معلقاً «عبيوزعوا فحم»، ومباراة كرة قدم بين فريقين لن يعرفوا طعم الذل، إلا وقت الخسارة.


بين عربات كل شيء، وبيوت من لا شيء.


بين قدرتك على أن تكون مدجناً وصامتاً، وبين نسيان الأطفال لطعم الخبز.


بين لافتةٍ كُتِب عليها «تجهيز كافة العرائس»، وامرأة تنتظر مكاناً لها في العراء.


بين هنا وهناك؛ أنت في «كيليس».


يستيقظ «عبد الله الفاضل» يبكي وحدته، والجدري يبكيك فيصيّرك وحيداً وغريباً. كنت تحبّ المطر ورائحة الأرض، والأبواب المغلقة، والغرف المسكونة بهواجسك، بينما أنين القهوة يشير إلى صرتك المركونة هناك، يستجدي منك جوابك، فتقول بعبثٍ: «تلك بلادي».


مجدداً تجلس على كرسيٍ في منتصف الحافلة، لا شيء لي في هذه المدينة سوى مفاتيح بيتي معي، وأصدقاء يجلسون على حقائبهم وخيباتهم كمن يؤنس المصيبة.


يبدأ العزف، لا قصص جديدة في حياتنا تكون ظلالاً، مازلنا نلوك ضحكات الماضي ونجتر الحزن الأنيق من ذاكرة قابعةٍ في سنام جمل. قصصنا الجديدة فقدانٌ للوقت الفاصل بين زمنٍ لن يعود، وزمنٍ لم يأتِ بعد.


كل ما في الأمر أنك تواسي قلبك بأنك «هُزِمت» حين غادرْتُك الآن؛ غادرْتُك دون أن ألتفتَ ملوّحاً «لا وقت للاعتذارات»، فقد اكتشفت متأخراً أنْ «لا ملح يسكن الصحراء
هنا.. كل شيء كان طبيعياً».


خارجاً من ذاكرتي بلا بندقية، وببقايا خيباتٍ، وفتات حلم، وكثيرٍ من الحقد.


خارجاً بعد أن تعبْتُ من استحضار شخصية الحمار القديمة، ولم أفلح في ارتداء أذنيه من جديد.


المدينة تلفحُ وجهك بنعومة ساذجة، والهواء لا يشبه الهواء.


الليلُ غبيٌ طويل، والنساء لا تشبه ما تخبئه نساء مدينتي من تمرد، واللغة غريبةٌ تملأ فمَك، ولا تصلح إلا للكساد.


أفكر في طعام زوجتي وطفلتي، وأسأل نفسي عن طريقة أدهشهم؛ كأن «أصنع لهم عشاءً فاخراً من الملوخية بالزيت».


الورق أمامك يهزمك أيضاً في الكتابة مُذْ هُزِمْتَ للمرة الأولى وأنت تقطع حلم مدينتك، وتختار «الشاي» كخيار واحد مليء بالتكلّف والخوف، فيدعوك لتمارسَ الصراخ بلا صوت.


حين الرابعة صباحاً تُغريك أن تبحث في هذه المدينة النائمة عن شمعٍ من بقالية مغلقة في الطريق، أو أن تشتري عوداً من البخور وتشعله في قلب الخزانة مع ثلاثة كتبٍ أعارها لك صديق جميل كي تقرأها، فتشتهي رائحة الورق وطعم البخور. وحين تَصرِفُ خيالك عن «ألباتشينو» لتطردَه؛ يحلّ محلَه ما تبقى من فيلم «فتحية والمرسيدس»، حينها تعرف أنك تموت من جديد.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +