الجسد بين الحرب والسلطة

الجسد بين الحرب والسلطة

كنتُ في الثامنةِ من عمري يومَ وفاةِ حافظِ الأسد، أُفرغت الشّوارعُ من المارةِ خوفاً من الانقلابات، كان الوضع أشبهُ بحظرِ تجوّل. يومها  كان الوقت صيفاَ، وبقيتُ في المنزلِ أتساءلُ عن طبيعةِ الشخصِ القاسي الّذي حرمني من الخروجِ للشّارعِ وتناولِ المثلّجات. قلت لوالدتي: «ومهما كان الأمرُ فلا يمكن لشخصٍ متوفٍ أن يمنعني من الخروج», إنّها اللذةُ، لذةُ إحساسي بالقشعريرةِ، لحظةَ نزولِ المثلّجاتِ لمعدتي وتفتّحِ مساماتي، ولحظةَ قرعِ الصّواعقِ داخلَ رأسي من شدةِ الصّقيع. هل السّلطة الّتي مُورست ضد جسدي ولذتي تعملُ تدريجياً على تكبيلِ جسدي ومنعِه من التّفتحِ والخلق؟


 أنا أدركُ قطعاً أنّ الإنسانَ فنانٌ خلّاقٌ بصورةٍ ناقصة، وأعرفُ أن شدّةَ الإدراكِ مرضٌ، لكنّي على قناعة تامة بتشوهِ وعدم اكتمالِ ما يخلقه، ربما لأنّ الإنسانَ فطريّاً يميلُ في حياتِه إلى التجميعِ والتجميعِ والبناءِ و البناء، فهدفُه هو الاستمرار وليس النتيجة فقط.


لا يقتصرُ الأمر فقط على مجرد كوني ساخطةً؛ إنني لا شيء بكلِّ بساطة. لكن دعوني أقول لكم شيئاً، إنني حقودة وشهوانيّة؛ شهوانيّة لحضوري لنفسي، ربما لا تتفقون معي ولكنّي في الثالثة والعشرين من عمري الآن؛ وهذا يعني أنّي شهدْتُ سقوطَ النظامِ في تونس، مبارك  في مصر، القذافيّ في ليبيا، بداية احتجاجات 2011، إحراقَ محمد البوعزيزي لِنفسِه، ثورة 25 يناير، ثورة 17 فبراير، ثورة الأحرار السوريّة، مقتل حمزة الخطيب، تفجيرَ مدرسة عكرمة، مجزرة الغوطة. دعوني أتوقف هنا قليلاً، «الجسدُ هو أول موضوعٍ تمارسُ عليه السّلطة فعلها» حسب تعبير فوكو.


فالجّسدُ هو أول ما يفضحُ ممارساتَ السّلطةِ و يعرّيها وهو مادةُ السّلطةِ والحرب؛ في الحروبِ عامة ًيطغى الارتواءُ المتدني لرغباتِ الجّسدِ على التصّعيدِ الفرويديّ، و ينحصرُ الفردُ  ضمنَ ضرورةِ إشباعِ هذه الرغبةِ بما يتناسب مع توجه ظلالِ القسوةِ والعنفِ السّائد أثناءَ الحرب،  مع حالةِ الاقتتالِ والعودةِ إلى الحالةِ القرديّةِ، فالحربُ هي القوّةُ الوحيدةُ القادرةُ على تغييرِ التكيّفِ الحضاريّ. تتهدّمُ الأسسُ الاجتماعيّة، وتصبحُ ساحة الحربِ مكاناً لانفجارِ الغرائزِ وإخراسِ التّحضرِ والتّمدنِ، سواءَ أكانَ الاقتتال بين دولتين أو بين جماعاتٍ كما هو الوضعُ في سوريا منذ عام 2011. يتم إلغاءِ الجّسدِ وتصفيته، وبذلك تُصبحُ فكرةُ الموتِ تجاه الأفكارِ المجردةِ كالأخلاقِ والوطنِ والدينِ كاذبةً، ويصبحُ الإنسانُ أقوى من الموتِ على الرغمِ من معرفةِ الفردِ بأنه هالكٌ لا محالة، إلا أنّه يَعتبرُ لحظةَ الموت، وخصوصاً في فترةَ الحرب، عبارة عن حادثٍ وليس ضرورةً، وبذلك يبني صورةً حقيقيّةً كاملة، معتقداً أنّ الفناءَ أو الموتَ ينقله إلى مرحلةٍ أخرى لا أكثر.


ذاكرةُ الجّسدِ تتهشّمُ أمامَ مطارقِ السّلطةِ والحرب، وإذا فتحوا ذات يومٍ قبري أو أيّ قبر سوريّ آخر فلن يجدوا شيئاً، لن يجدوا إلا فعل السّلطةِ الذي مُورسَ على جسدنا وأنهكه بالفناءِ مراتٍ ومرات.


إنّنا هنا  حقودون و شهوانيون لحضورنا، كما أنّنا لا نحدُّ من لذّةِ جسدنا بل نحررُه نحو أشكالٍ متعددة من الانتشاءِ والغيبوبةِ والانخطاف، نحن نُرهبُ السّلطةَ والحرب، ننتقلُ بجسدنا ولذّتنا من مرحلةٍ لأخرى، حيثُ تنفتحُ السّماءُ لمستوياتِ خلقٍ عديدةٍ، ليس حاجةً للاحتماءِ والهرب، بل حاجةً للتفوّقِ على الموت. نحن هنا محورُ العالم ونحتفل بانتصاراتنا  المحمّلة  برائحةِ الخلق وبالموتِ، كما الفعلُ الجنسيّ حيث لا يمكننا خلقُ اللذّةَ إلاّ من خلالِ إذابةِ  الجّسدين ببعضهما، عندها فقط سنمشي كطائرٍ خفيفِ الوزن.


إنني متملّكة لجسدي فأيّ سلطةٍ ستمارسون؟!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +