بين براثن شقق «العظم»

بين براثن شقق «العظم»

في شتاء العام 2013، بينما كان الثلج ينهمر، ويحتفل كثيرون بعرس البياض، كانت أم ابراهيم تجاهد طوال الليل لتجرف أكوام الثلج المتراكم عن سطح منزلها، بعد أن تسرّب الماء وبلَّلَ الفرش والبطانيات، وحرمها وأولادها الراحة والنوم. لم يكن ذاك منزلاً على أي حال، بالرغم من أنه مكونٌ من سقفٍ وجدران، فهو هيكل شقةٍ لم تُكسى بعد، في بنايةٍ لم تُجهّز للسكن ولم تصلها مرافق الحياة (خطوط الكهرباء والماء والصرف الصحي). رغم ذلك كانت تقطنها عائلاتٌ نازحة في خمس شقق، نُظّفت من الرمل ومخلفات البناء ووضعوا لها أبواباً كيفما اتفق وسدّوا النوافذ بالشوادر وألواح الخشب، وجلبوا ما تيسّر مما يشبه أثاث المنزل وبعض الأوعية لتجميع الماء. كذلك ابتكروا مرحاضاً عاماً في أحد الطوابق، كانوا يظنون هذه العشوائيات سكناً مؤقتاً، لكنهم لازالوا يقطنونها حتى الآن، بعد أن تحولت إلى سكنٍ شبه دائم.


لم تكن تلك البناية استثناءاً، فلقد أصبحت شقق «العظم» سكناً بديلاً للنازحين، بعد أن تفاقمت أعدادهم وحلّقت أسعار الإيجارات بشكلٍ هستيري, فغدا حضورها مألوفاً بين الناس وفي المكاتب العقارية في أغلب مدن ريف دمشق التي تُعد آمنة. حاراتٌ وأحياءٌ بأكملها صارت تعجّ بساكني هذه الشقق، التي استثمرها مالكوها بعد أن استصلحوها شكلياً بوضع أبوابٍ مجمّعة من خردةٍ مختلفة ولا تكاد تتصدى حتى للهواء، مستغلين معاناة الباحثين عن سقفٍ يؤويهم. هذه الخرائب التي لا تصلح للحياة البشرية وصل ايجارها إلى ما بين 12 و20 ألفاً، وعلى مستأجريها أن يروّضوا وحشتها، وأن يرتجلوا مطبخاً ومرحاضاً، ويجلبوا شيئاً من الحياة إليها. كذلك عليهم التصدي للبرد والخوف المتسللان عبر النوافذ والثقوب الكبيرة في الجدران العارية، وعليهم أن يبتكروا حلولاً للتأقلم مع هذه العراء الموحش ليواصلوا البقاء. فلقد اضطر أبو ياسين إلى اصلاح مداخن البناية التي تعبر شقته، وسبّبَ له ولعائلته اختناقاً وأمراضاً يومية. فهي تنفث دخانها المنبعث من المدافئ المشتعلة في الطوابق السفلى التي يقطنها المالكون، الذين لا يأبهون بمعاناة مستأجريهم القاطنين فوقهم في شقق القفر. لم يكن أبو ياسين أفضل حالاً من جاره الذي يعيش بجانب أكوام الردم والحصى، تلك التي جمعها مع أولاده، بعد تهيئة المكان للسكن، ليفسح مجالاً للجلوس والنوم. هذه الأكوام تحتل غرفةً من شقته البائسة التي يدفع إيجارها ثلاثة عشر ألف ليرة سورية شهرياً.


في أحد البنايات العشوائية من حارةٍ تحولت إلى ما يشبه المخيم، كان أبو ياسر ينقل دلاء الماء كل يوم من معملٍ للبلاط إلى الطابق الخامس ليملئ البرميل الصدئ الذي يُستخدم للاستحمام والغسيل والحوائج اليومية، بينما كانت أم عمر في الشقة المجاورة ترسل أبنائها الثلاثة لأداء هذه المهمة ولجمع قطع الخشب المتناثرة في المنطقة لاستخدامها في التدفئة، أما من كان لا يقوى على صعود الأدراج, فعليه  أن يشتري الماء من الباعة الجوالين. استطاع بعض سكان البناية، بعد توسلٍ وشقاء، أن يستجرّوا خط كهرباءٍ من المعمل، فأناروا شيئاً من ظلمة معيشتهم، ومدّوا خطاً للصرف الصحي على نفقتهم الخاصة، بينما كان آخرون يقضون حوائجهم في أماكن مجاورة لم تُسكَن بعد.


في مكانٍ آخر من هذا الخراب كانت أم رشا تسهر حتى الفجر لتحرس ابنتيها الفتيتين من أي اقتحامٍ متوقعٍ لمسكنهن غير الآمن، ذو الباب المتداعي، فهنَّ يعشن في وحدة ووحشةٍ بعد أن فُقد رب الأسرة منذ سنتين ولم يُعرف مصيره حتى اليوم، حالها كحال جارتها التي تضع قطع «البلوك» خلف الباب لتدعيمه، قبل أن تنام مع أطفالها.


نازحون تقطعت بهم السبل وشتتَّهم أقدار الحرب، كانت لهم بيوت مشرعة على الكرم والخير، واليوم تلفظهم جميع الأماكن وتضيق بهم البلاد، وبالطبع لا يملكون مالاً كافياً ليعبروا البحر نحو أوروبا، وهم الأكثر حقاً باللجوء الانساني. لازالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم على أمل عودةٍ ما، على الرغم من أن أغلبها قد تمت إزالته من الوجود.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +