لماذا أخاف من التقسيم؟

لماذا أخاف من التقسيم؟

أنا الكائن السوري الرازح تحت نير الاحتلال الأسدي منذ خمسة عقود، الخائف من ظلّي إذا مالت الشمس قليلاً لأنه لا يشبهني حدّ التطابق.. لماذا أخاف من التقسيم؟


في بلاد كانت تعيش تحت ظلّ الحراب، لم تكن «الوحدة» التي يشتدّ عويل النائحين خوفاً عليها إلا سجناً كبيراً. ولم يكن هذا الانضباط الصوري الذي يحلو للورديين السوريين تسميته: «تعايشاً» إلا التزامَ سجناءٍ بتعليمات السجّان.


بعيداً عن التهويلات والولولات التي تشبه تصريحات نساء «باب الحارة» تعقيباً على شجار «رجالها»، لنعد بالذاكرة قليلاً إلى الواقع الذي كنّا نحياه:


جغرافياً


أحياء المدن الكبرى مقسّمة تبعاً للطوائف، ضواحيها مقسّمة تبعاً لأصول القادمين من المناطق الأخرى. القرى في الأرياف أيضاً مقسّمة حسب الطوائف، وإن وُجدت قريةٌ يقطن فيها معتنقون لطائفتين أو دينين مختلفين: ستجد حتّى القرية الصغيرة بأحياء مقسّمة.


اجتماعياً


كانت حوادث الزواج المختلط بين الطوائف أمراً مستنكراً، إن لم نقل أنه يؤدي إلى عزلة اجتماعية كاملة، وما تزال مصطلحات مثل «خطف – شردت .. إلخ»، حاضرةً في التعبير عن هذه الحوادث. ويمكننا بمزيدٍ من الصراحة، الحديث عن ردود أفعال الأسر التي مازالت تعيش في وهم «العراقة» في المدن الكبرى، حين يجرؤ شاب ريفي على التفكير بخطبة ابنتهم.


إنسانياً


تكاد المجالس المغلقة تنفجر غيظاً حين تسمع تصريحات السوريين عن حبهم لبعضهم، فهي شاهدة على الأحاديث المتعالية واللغة التعميمية والاتهامات المتبادلة. أهل المدن بخلاء، وأهل الريف متخلفون، أهل الطائفة الفلانية خونة، أبناء الطائفة العلّانية بلا أخلاق.


الوحدة ليست تبعيّة لفرع أمنٍ واحدٍ، والتقسيم ليس حدوداً من هواء.


العدائية الطلسمية لفكرة التقسيم ما تزال أمراً غامضاً بالنسبة لي، ولا سيما للتقسيم الفيدرالي، النموذج المتبع في أغلب دول العالم المتحضّرة التي وصلت الفيدرالية في بعضها كـ«سويسرا» إلى مستوى المدن لا المقاطعات. والأجوبة المعلّبة الجاهزة من قبيل «شعوبنا ليست كتلك الشعوب»، تتحول لغبار بمجرّد استحضار تجربة دولة الإمارات العربية.


في حالة كالحالة السورية، الغارقة منذ ما قبل الثورة بتقسيمات لا تنتهي «أفقية وعموديّة»، تقسيمات عززها عنف النظام وعبث الأطراف الدولية بالدم السوري، حتى باتت أقسى من كل حدود العالم. تبدو الفيدرالية حلًّا أقرب للواقع من كل الشعارات والهتافات، من كل دروس الوحدة التي زرعها البعث في أوهامنا كالسرطان.


ميل القوى الكبرى للتوّحد الاقتصادي بشكل رئيس، يترافق مع حرص شديد على الحفاظ على الخصوصية المحليّة لكل بلد، شعباً وتراثاً وروحاً، مع فتح الأبواب مشرّعة للتعرّف على الآخر، واكتشاف مواطن الجمال فيه، ونحن في سوريا «الواحدة» لا نفوّت مناسبة دون:


السخرية من لهجاتنا.


التشبث حتى الهستيريا بالسكن في مناطق معينة بسبب طبيعتها الطائفية.


الهرب بلا تفكير من السكن في مناطق أخرى لذات السبب.


النظرة الدونية للأرياف.


اتهام أهل المدن بالبخل والتصنّع وحبّ المظاهر.


الفوقية في التعامل استناداً لللهجة أو المنطقة.


أليس كل هذا تقسيماً؟؟


لماذا عليّ أن أخاف من الواقع، من الاعتراف بالواقع؟ ولماذا ينبغي عليّ القتال من أجل وهم؟


لسنا واحداً، ولن نكون واحداً إلا إذا اعترفنا بتعددنا وتمايزنا وحقنا في الاختلاف والافتراق، واللقاء في يومٍ ما، بعد أن نتعلّم أنّ الصراخ العالي من أجل الوحدة هو وحده دليل كاف وقاطع على تمزّقنا.


في الحقيقة يضحكني حتى البكاء ذلك التمسّك المريض بوحدة بلدٍ يلقي بعض أهله البراميل على أهله الباقين، وينادي بعض أهله بإبادة أهله الباقين، بلدٍ صار ثلثا أهله خارجه.


نعم لوحدة هذا القبر.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +