تبادل.. شرنقةٌ بشرنقة

تبادل.. شرنقةٌ بشرنقة

أضاعَ قلمه الذي كان يدون به هذيانات النار والرصاص, بحثَ عنه وعن عدة التدوين التي كان يخفيها فور الانتهاء في أمكنة سرّية للاحتراز.


نكشَ المكان المنكوش مسبقاً, ودارت في ذهنه الهواجس التي تفضي إلى الكارثة كلها. في إحدى علب البهارات وجده أخيراً، القلم وأوراقٌ مكورة وسط حبات اليانسون, سحبه فتناثرت الأوراق وحبات السكينة كما كانت تُطلِق عليها أمه, نفضها ومرر عليها كفه المرتجف حتى استوت, التقطت عيناه خطاً لا يشبه خطه:


الجثة برعم يتفتح على الرصيف


هل كفنوها؟


يا ليتها شرنقة *



نسيَ عن ماذا كان يبحث، أكيد شعر إياد-قال لنفسه- الشاعرُ الذي عشقته سعاد من قصائده دون أن تلتقي به أو تعرفَ شكل وجهه. أوقفَ ارتجاف يده لبرهة، وكتبَ خلف قصاصة سعاد «أمي.. سعاد أحبكما». كان يستحيل عليه الانتظار أكثر, طوى الورقة كمن يطوي عمراً كاملاً، وضعها في شق المرآة وأطبقَ الباب دون أن ينظر للخلف.


الانتظار المرّ كان هناك, حيث افترشَت الأم الكرتون وزودت نفسها بقليل من الطعام وزجاجة ماء, كمحاربٍ قديم حلفت أن لا ترجع إلا ومعها سعاد، أو تعود إلى التراب.


باللؤم المعتاد أبعدها الحارس مرات عدة عن رصيف الصبر, تغادره بعض الوقت وتعود، وبائع الكشك البعيد يزودها بقليل من الأطعمة خلسةً بعد أن عرف سبب مكوثها هناك، يرمي بالكيس الأسود أمامها غارباً وجهه ويمضي دون كلمة, أحسّت وكأنه ملاك يحرس الرصيف من اللعنة ويختفي.


للحظةٍ استعادت مشهد خروج «زوار الفجر» من المنزل, حين قفزَ ابنها من فتحة بيت الجيران غير مكتمل البناء عبر المنور بعد تيقنه من مغادرتهم المكان, وجدها غارقة بجحيم عيونها المائي, وزفيرٌ ينتزع الشهيق انتزاعاً. سألها: ماذا يريدون؟ماذا يريدون؟ حينها أحست أن صمتها جاء ككيٍّ على صدره, فاقترب منها كخلدٍ هاربٍ من كلب, تكور كخطأ وجودي في لحظة انطفاء تامة.


- «بعدِك هون؟».


كعواءٍ جاء صوت الحارس، ليوقف هدير التذكر.


- «مو رايحة حتى آخذ سعاد معي»، صارخةً بوجهه: «هي ما دخلها.. ما دخلها».


الهواء الهستيري الذي خرج من صوتها أرغمَ حارساً آخر على الاقتراب, وأشارَ لزميله بالابتعاد وقال لها: «يا خالتي لا يمكنك اخذ سعاد حتى يأتي أخوها عصام ويسلم نفسه، الجلوس هنا لا يفيدك, أرجوكِ.. اذهبي, لأن الضابط أمرنا بذلك.. وها هو ينظر من الشرفة... من شان الله روحي.. من شان الله».


لملمت دموعها الخفية وسارت بتباطؤ: «كرمالك سأذهب... لكن سأعود».


بخطىً واثقة، سارَ عصام إلى هناك، وفي الطريق كان يتعقب شريط صور التشييع في ذهنه التي مرت خلال أشهرٍ مضت. تذكّر قصيدة إياد المدونة على قصاصة سعاد، تراءى له تشييعه كشرنقة. حين اقتربَ من باب فرع أمن الدولة، وضعَ كبسولةَ التوقف عن الحياة في فمه، ومشى كفاتحٍ تعتريه قشعريرةٌ غامضة.


«قف!» قال له الحارس: «إلى أين؟».


- أنا المطلوب عصام، جئت لأتمم صفقة التبادل مع أختي سعاد المحجوزة عندكم منذ ثلاثة أيام.


تلعثم الحارس وارتبك، كيف يخبره أن يعود كيف!؟ والحُراس واقفون على مقربةٍ من الهمس.


تجاوزَ عصام الباب الرئيسي برفقة أحد الحراس دون أن ينظر إلى الخلف، خوفاً من أن تلمحه أمه، واكتفى بالوداع المخبأ في شقِّ المرآة.


بعد أيامٍ ليست قليلة سلموا جثة سعاد إلى أمها.



* مقطع شعري من قصيدة لإياد شاهين.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +