عبور البرزخ الشائك

عبور البرزخ الشائك

«من قال إن الأمطار نعمة دائماً؟ أحياناً تتحول إلى رصاص وقذائف تقتلك مع أول قطرة قد تخترق ثيابك مصحوبة ببرد ينخر عظامك المتهالكة». جلس على حجر موشّى بوحل المكان، شعر أنّ كلّ الكلمات التي قالها بصوت أشبه ما يكون بالصراخ، لم يسمعها أحد من بين آلاف الناس التي استوطنت هذا المكان.


يسرح بعينيه وهو يتأمل المخيّم الذي وجد على عجل، دمعة ساخنة تتدحرج على خده يشعر بها تخترقه لكنه يتركها، علّها تبرّد الغيظ الذي بداخله.


استعادت ذاكرتي تلك الأيام العصيبة التي عاشها بعض الفلسطينيين ممن أبعدوا إلى (مرج الزهور)، كنت كلّ يوم أتابع الأخبار التي تبدأ بسمفونية الأخبار الثلاثية عن الاستقبال والتوديع والمنجزات والعطاءات، لنصل الى خبر مأساة العالم - كما كنت أراها- أشاهد الخيام المنتصبة تحت المطر والبرد والقهر، مازالت صورة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي لا تفارقني وهو يتحدث عن وحشية الاحتلال الإسرائيلي وصمت المجتمع الدولي المريب والمتواطئ.


في لحظة التأمل، سحب علبة التبغ المعدنية من جيبه وبدأ يلف سيجارته، علّه يحرق العالم بدخانها، أصابعه المقهورة ترتجف من البرد وقهر الرجال، يحاول مرة، اثنتان، ثلاث، لكنها تخذله ولا تريد أن تتحول إلى محرقة الهموم. يرمي بورقة التبغ التي ما عادت قابلة للف السيجارة، يسحب أخرى لكنها تعانده عدة مرات، تزداد بداخله حمّى الغضب، يغلق العلبة ويرمي بها غاضباً مع سيل من الشتائم المكتومة، إذ لا يليق به أن يشتم بطريقة فاجرة أمام نساء المخيم اللاتي ربما تجمعه معهن قرابة بطريقة أو بأخرى، لكن التبغ غالٍ على قلبه أيضاً، ولهذا كان حريصاً عليه وأغلق العلبة، إلا أنّه ما لبث أن عاد إلى تبغه وهو يستعيد ذاكرته القريبة، حين أطلق عليه عنصر «الجندرما» الرصاص الحي، عندما حاول أن يتخطى الشريط الحدودي مع زوجته وأولاده.


صرخات امرأة آتيةٍ من إحدى الخيام تكسر هذا الصمت القاتل، صرخات موت تقابلها صرخات حياة لطفل لا يعرف من الوطن إلا الخيمة، لكن حدث ما جعل الصرخات تتبادل مرة أخرى، صرخات الموت الأولى تتحول إلى عويل حياة تندب تلك الصرخات التي استقبلت الحياة لتعود إلى صمت الموت الأول، واكتشف ذاك الوليد أن في الوطن مكان آخر غير الخيمة، إنه حفرة تحت التراب، قد ينسي الوحل الذي شكّلته الأمطار التي ولد تحتها الجميع، أن هناك من أتى إلى الحياة وفارقها، خارج وطن من حياة إلى وطن من تراب.


كنت أعتقد أن خيام المبعدين في مرج الزهور هي أكثر أشكال الوحشية الآدمية. كيف يمكن لبشر أن يصمتوا على كل هذا الذل والقهر الذي يتعرض له هؤلاء المساكين؟ كيف يمكن لدول أن تبلع ألسنتها أمام هذا الإجرام؟


فيما أنا أستذكر تلك الساعات من الدموع على رفاق الرنتيسي، أشعر أنني كنت ساذجاً، ليس لأنني تعاطفت مع أولئك المشرّدين، ولكن لأنني اعتقدت في يوم من الأيام أن ما يحصل مع المبعدين هو قمة الوحشية التي تجرد العالم من إنسانيته!


لم تحرّكه الصرخات المتبادلة بين الحياة والموت، كان مصرّاً على لفّ سيجارته اللعينة -كما وصفها- كان يريد أن يحرق العالم بعد أن فشل للمرة الخامسة من عبور الشريط الحدودي إلى تركيا. المهرّب يريد مبلغاً من المال، كان في ما مضى يريد أن يبني به بيتاً صغيراً في أرضه الزراعية التي ورثها عن والده، لكن هذا المبلغ، وعلى مدى سنوات طوال، لم يجتمع في جيبه! كيف يستطيع تأمينه الآن، وقد عجز عنه لسنوات! لكنه في الوقت ذاته ربما يساوي الحياة، والتخلص من موت الحقد الروسي الأعمى.


أخيراً استطاع لفّ سيجارته، والتي أشعرته بالنصر عندما أشعلها، وعبّ أول نفس منها. شعر أن هناك حدثاً جللاً في خيمة ما من هذا المخيم الكئيب. عاد بشريط ذاكرته، وعادت له الصرخات التي تساوي الموت بالحياة. حمل جسده المتعب على قدمين أثقلهما الوحل، صوت يناديه (إلى أين أنت ذاهب؟) يهز رأسه بلا مبالاة يصرخ بأعلى صوته، سأبحث عن مهرب، قد نستطيع اجتياز الحدود اللعينة، وربما نستطيع اجتياز الموت ونهرب إلى الحياة!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +