ولليوم طالعة ريحتي

ولليوم طالعة ريحتي

يتلفت العشّي حوله دائماً دون أن يستقر للحظة، تتحرك ساقه بنزقٍ تريد أن تنفلت من مكانها، يتحدث بشكل متقطع، وقد يمسك بشاربه بتوتر لتظن للحظة أنه على وشك انتزاعه.


وككل حمصي يتحدث عن حصته من حماة بعيداً عن النكات، نتف شعرتان من شاربه وبدأ. وكما كل قصص السوريين اليوم، «خذها كما هي.. بقوة.. طازجة مريرة».


تَسلِقُ حمص بدنك بالنكات المرة، كأن يمسك أحدهم قطعة من جسم شخص دهسته سيارة ليركض بها إلى سيارة الإسعاف، فيقول الطبيب للمسعفين بصوت عال دون أن يضحك «مو قلتلكن جيبولي الزلمة كلو.. كلو يعني كلو». أو أن تقول عمشة لخالي أبو سيف بحزن وحكمة «والله بعمرهن ما رح يصيرو رجليك أربعة تحت اللحاف»، أي أنه لن يتزوج أبداً.


وتحدث العشّي:


في إجازة طال انتظارها من القوات السورية المخيمة في لبنان، أخذتُ ثلاثة أيام لأزور أهلي في حمص. ضربت الآلهة رأس زوجتي العنيد، تريدُ زيارة أهلها في حماة لتأتي بأمها لأن «حماة صارت جهنم». هكذا قالت زوجتي لأمي التي ردت الموضوع إلى «مياصة» الحمويين برأيها، ودلع الكنة الضيفة، كما نطلق على كل كنة لم ترضَ عنها السماء لتولد في حمص، وأنه ليس هناك من جنهم ولا من «يتجهنمون».


ذهبتُ بشعري المحلوق على الصفر، بعد أن «ضربتُ دق الذكاء» العجيب بأن تركت البدلة العسكرية في البيت ولبستُ ثياباً عادية، بعد ستة حواجز وجدتني في ساحة حارة أهلها، وسيارات الزيل تملأ المكان والموت يحرق ذرات الهواء ويحقنها بتلك الرائحة النشادرية التي يظن الجميع واهماً أنه يعرفها جيداً.


خرجَ مجموعةٌ من الناس تجلدهم الكلاشنكوفات على ظهورهم،  يكرشهم العساكر اللابسين «أقفية» في وجوههم. كان كل شخص من المكروشين مسحوب الخير والدم والعقل والدين، هائمٌ في ملكوت الله لا يكاد يقوى على المسير. بلحظةٍ واحدة أدرت ظهري، ومشيت في الاتجاه المعاكس كعادل إمام مدعياً أنني من «بنها» كما يقول المصاروة، إلى أن جاءتني الضربة على ظهري لتوجهني مع الراكضين عشرة خطوات باتجاه الحائط، كانت أبعد من حمص ومن أمي ومن لبنان ومن جبل الشيخ.


وصلنا إلى الحائط، اصطففنا. انربطَ لساني عن الكلام، لم أستطع أن أصرخ بصوت عالٍ «أنا عسكري.. بلبنان.. أنا جاي آخذ مرتي.. وهذه إجازتي». قلتُ هذه الكلمات بصوت يجلجل في صدري فقط، نطقَ الشخص الشجاع بجانبي بالشهادة فانفلتت ركبي مني، لم أعد أقوى على مسكها، أصبحتُ كالحنكليس بلحظة دون أي مفاصل أو عظام، «انتترت» على الأرض «كباكيت فاضي»، كخرقة.. كممسحة.. كمحرمة.


تراكضت الكلمات من خلفي، رفسني عسكري بكفه الشريفة على وجهي، مرت 30 ثانية. ولم أستطع الانتصاب، ظهر صوت جديد «مهيوب» محترم يبدو أنه القواد الكبير، قال: «من هؤلاء كمان». صرخَ صوت مرؤوس يعلك الولاء ليبصقه في وجه محدثه طاعةً والتزاماً: «إخوان سيدي»، ردَّ القواد الكبير: «طيب خلصونا»، وابتعد.


سمعنا الكلاشنكوفات تلقم نفسها، (يا لذلك الصوت القذر الذي كان يفتخر به «ميستر ميخائيل كالاشنيكوف»  كما ينطقونها في اللغة الروسية الشريفة أمام الكاميرات). فارتمى من ارتمى منا، ونطقَ الشهادة من نطقها بصوت مرتفع، سكتَ الكون كله، وبدأ أولادنا يركضون أمام أعيننا بملابس المدرسة ويصرخون، وكان ابني عامر متثاقلاً بحقيبة المدرسة الثقيلة يركضُ أمامي ويصرخ «ايه خلص بابا تشاهد ، افت منك».


لم أستطع أن أرفض طلبه، ونطقت الشهادة مع ابتسامة خفيفة من الشفة السفلى فقط.


ركبنا السرفيس الأصفر، استجمع أحدنا بقاياه وقال: «حمص». مشى السرفيس الأصفر على مهله، كانت رائحة البول تملأ السرفيس.


«ولليوم طالعة ريحتي».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +