وحين اختنقت

وحين اختنقت

الخلقُ لأجل المعاناة لا أقل، ربما لأكثر من ذلك بكثير. هذه هي القناعة التي ارتسمت في رأسي داخل المعتقل، هل يجب أن تنهار وتصل إلى حدود الهاوية حتى ينظر الله في أمرك؟


امرأةٌ ستينية، محجبة، بيضاء البشرة، يعلو بعض النمش الخفيف وجهها الهادئ، ذات عينين زرقاوين، سمةُ «الذوات» باديةٌ عليها، تؤمنُ بطريقتها المميزة بالله وبرحمته، وتبتسمُ كثيراً رغم الألم.


كان اعتقالُها نتيجة انتماء ابنها لكتائب الجيش الحر، وبما أنهم لم يستطيعوا الوصول إليه، قاموا باعتقالها بدلاً عنه. شاهدَتني جالسةً وحدي أتأمل الجزء الظاهر من السماء في باحة السجن، وعلى وجهي أمارات الاستسلام والتعب الشديد، تبسَّمَت في وجهي وابتدأت حديثها.


- روقي يا بنتي.. الله موجود.


- ممكن أسألك سؤال خالة؟


- تفضلي.


- الله بيقول «لايكلف الله نفساً إلا وسعها».. صح؟


- مبلا.


- ممكن تشرحيلي شو يعني «وسعها»؟؟


لازلت أذكر أنها رأت الغضب في عيني، وأنها ارتبكت كثيراً بالإجابة.


تابعتُ كلامي:


- عندما تصل معتقلة هنا للانهيار، وأخرى تفقد ما بقي من رباطة جأشها، وأخرى تموت وأخرى تحاول الانتحار.. هل هذا كله «وسعها»؟ عندما تفتح معتقلة عزاءاً لابنها وزوجها دفعة واحدة في مهجع السجن، ولا تملك من أمرها حتى أن تودعهم أو تراهم جثثاً، مستسلمةً لمصيرها الظالم. هل تتسع النفس البشرية لكل هذا الألم دفعة واحدة؟ وهل حقاً لا يكلفنا الله فوق وسعنا؟


اعذريني يا خالة، أنا لم أعد أؤمن بهذا الكلام، لأنني الآن وبعد تسعة أشهر في المعتقل لا أعتقد البتة أنني مازلت في «وسعها», أعتقد أنني تجاوزته كثيراً.


- لا تقولي هيك يا بنتي, ما بيجوز.


- يلي عم بيصير فينا بيجوز؟


- لازم تتحلي بالإيمان.


- خالة.. أي إيمان بكل هالكفر الي عايشينوا!! جاوبيني شو يعني «وسعها»، لأني فوق وسعها بكتير!!


للحق، وكي أكون منصفة معكم -أنتم الذين تقرأون الآن وعلامات الاستفهام والتعجب  تعلو وجوهكم- أنني كنت لا زلت في نطاق سعة نفسي التي ابتدأت تضيق من حينها، إلى أن بَلَغت ذروتها في الشهر الأول من العام الجديد في المعتقل، وخنقتني.


وحين اختنقت، تم إطلاق  سراحي!


في الخامس والعشرين من الشهر الثاني كان موعد لقائي مع مدينتي وجهاً لوجه، بعد غياب ثلاثة عشر شهراً. كانت وطأة «اللامعنى» تداهمني بقوة، وتنهش آخر ما بقي فيَّ من قدرةٍ على الإحساس بالأشياء، كالغريق الذي يسلّم نفسه طواعية للعبة الأمواج بعد أن يفقد الأمل بالنجاة، تروح به جيئة وذهاباً وهو لا يملك من أمره حولاً ولا قوة.


ليس الحدث وليد ذاته كما نحب أن نظن أو نعتقد، ففي الغالب تشكل الحوادث شبكةً تلتف حول خلايا الذاكرة، تطبق الخناق عليها، حتى لكأنك ترى الأمس اليوم، وترى الغد البارحة.


قبيل ذلك التاريخ بأيام معدودة، رأيت صوراً تشبهنا جميعاً، جثامين معتقلين تصيبُ القلب برضة الخوف، تلك الرضة التي قاومتها أربع سنوات. أحدَ عشر ألف معتقل، خمسة وخمسون ألف صورة، تقريرٌ من سبعين صفحة يصف الأساليب التي قضوا بها جميعاً، خنقاً جوعاً تعذيباً ألماً. كم كانت أجسادهم المستسلمة لراحة الموت صارخةً بالألم، تواطأت صورهم على شجاعتي فغلبَتها وانتصرَ الخوف، أنا لا أريد أن أُعتقل، أنا خائفةٌ الآن.


هل يحق لنا أن نخاف الآن؟ بعد كل ما سعينا لأجله وما بادرناه بشجاعة أحياناً، وبتهور أحياناً أخرى؟


لا يحق للسائل أن يضع إشارة الاستفهام هنا، فهو وأنا نعلمُ جيداً أن الخوف فطري بحالتين فقط، السقوط والضوضاء، وعدا ذلك هو شيء زائفٌ وصنعي. في هذه الحالة، السقوط في الدرك الأسفل من الإنسانية سببٌ مقنعٌ جداً للخوف.


أسألُ نفسي الآن.. متى اختنقت؟ حين رأيتهم أم حين رأيتني أشبههم؟

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +