بيهمّنا سلامتك

بيهمّنا سلامتك

يروى أنّ جدّ والدي لأمّهِ «سليم هنيدي» كانَ رجلًا مرموقًا في بلدة «المزرعة»، وهي بلدة على مقربةٍ من قريتِنا، وكانَ اسمُها سابقًا «السّجن»، وقد استُمدّ هذا الاسمُ على ما تقولُ المرويّاتُ الشعبية، من واحدٍ من سببين، الأول أنّ نبعَ ماءٍ كانَ فيها، وانقطعَ ماؤهُ فقيلَ «سُجن»، والثاني لوجود سجنٍ فيها قديمًا.


وعلى أيّ حال فقد غيّرَ النّظامُ السوريّ اسمَها لتُصبحَ «المزرعة» تيمّناً بمعركةِ المزرعة التي جرت على مقربةٍ من «السّجن» بينَ ثوّار الثورةِ السوريّة الكبرى (هؤلاء كان اسمُهم ثوّار لا متمرّدين)، وبين القوّات الفرنسية، التي هُزمت بدورها هزيمةً مدوّية جعلت المعركة مخلّدةً في التاريخ. وعلى أيّ حالٍ، لا نحتاجُ هنا للتذكير أنّ النظام غيّر الاسمَ فقط، ولا يعني في حال من الأحوال أنّهُ كانَ ضدّ فكرة السّجن.


مالَنا، كانَ سليم هنيدي رجلًا مرموقًا كما أسلفنا، وتحت دارهِ الحجريّةِ الضخمة التي تعلو أكمةً تتوسطُ البلدة، عمّرَ الرّجلُ قنّ دجاجٍ يستفيدُ من إنتاجهِ أسوةً بالأغلبية الساحقة من سكان تلك المنطقة. وعلى بابِ القنّ، كانَ ثمّةَ كلبٌ ضخم ينامُ ويصحو في مكانهِ، مسؤوليّتهُ حمايةَ الدجاجات من أيّ خطرٍ محتمل، قد يأتي من ثعلب أو من حيوانٍ آخر ينتمي لفصيلتهِ، وهي الفصيلةُ التي تخافُ الكلابَ ولا تقتربُ من أماكنِ تواجدِها.


وفي إحدى صباحات القريةِ، نزلت زوجةُ سليم هنيدي إلى القنّ لجلبِ البيض، جريًا على عادتِها اليوميّة. ولكنّ المفاجأةَ كانت حينَ اقتربت من الباب ورأت ريش الدجاجِ منثورًا على مساحة أرضِ القنّ امتدادًا إلى بابهِ الخارجيّ. كانت الدجاجاتُ قد افتُرست بالكامل في الليلة السابقة على ما بدا. فهرعت السيدةُ مسرعةً إلى زوجِها، وأخبرتهُ ما جرى، فرافقها ليتفقّدَ «موقع الجريمة»، ورأى ما رأى من خسائر وآثار دماءٍ وريشٍ مبعثرٍ في المكان، وعندما همّ بالخروجِ من القنّ رأى كلبَهُ على جلستِهِ تمامًا، لم يطرأ عليها ولو تعديلٌ واحد، مستلقٍ عند الباب بخمول وكسل. في تلكَ اللحظة، صُدمَ الرّجلُ من استرخاء كلبهِ، فنظرَ إليهِ وقال ساخرًا بعد أن رأى كلّ تلك الخسائرِ التي كان من المفروضِ أن الكلبَ موجودٌ على بابِ القنّ ليمنعَ حدوثَها: «خلّيك... نحنا بيهمّنا سلامتَك!».


منذُ خمسِ سنواتٍ وحتّى اليوم، يكادُ لا يخلو يومٌ من تذكّري للقصة، أتذكّرها يوميًا، منذُ كانَ الصّراعُ السوريّ صراعًا وطنيًا خالصًا، أي قبل دخولِ أول عنصرٍ غير سوريّ إلى أرضِ المعركة، قبل عناصر حزب الله اللبنانيين وقبل الحرس الثوري الإيراني، قبل الشيشان والأفغان والتونسيين والمغاربة والسعوديين والـ والـ إلخ... وبالطبع، قبل الجنود الروس الذين جاءت لهم حكومتهم بمطرباتٍ وراقصاتٍ وفنانيين وفرق موسيقية وإعلاميين، لتسليتهم والتخفيف عنهم أثناء تأديةِ مهمتهم الجليلة في محاربة الإرهاب في سوريا.


مذ خمسِ سنواتٍ وحتّى اللحظة، كلّما تذكرتُ مقطع أغنية مارسيل خليفة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيليّ: «بلا زغرة حتّى التايواني، طاحش عالسوق اللبناني»، وكلّما ظهرَ رأسُ سلطةِ الأمرِ الواقع الذي ما زالَ قابعًا في قصرهِ على مرأى ومسمع العالم، وبدعمٍ لا محدودٍ منه. أرى الصورةَ مقسومةً إلى نصفين، في نصفها الأولِ صورةٌ لإحدى المدن أو القرى السوريّة المنكوبة، أو لأحد الذين قضوا نحبهم في البحار وعلى حدودِ دول «العالم المتحضّر»، وفي النصف الثاني أرى «الرئيسَ المُنتخب» (على رأيِ أدونيس) يحاضرُ في حقوق الإنسان وحريّة الصحافة وما إلى هنالك من شعارات.


كلّما حدثَ ذلك، وهوَ يحدثُ يوميًا تقريبًا، أتذكّرُ جدّ والدي، وأكررُ بغصّة لا بسخريةٍ هذه المرّة: خلّيك... نحنا بيهمّنا سلامتَك!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +