نظرية «الطّارة»

نظرية «الطّارة»


كان جزءاً أساسياً من المكان..! ويكاد المكان أن تسيطر عليه صفة اللوحة التي لا يغيرها إلا إعادة مسحها أو النيل منها بإضافات، أو بحذف جزءٍ منها. وفي حي جوبر الدمشقي الذي قلما تعرض لأي تطويرات في بنيته التحتية استطاع «أبو فهد» (مُصلح الدراجات الهوائية) أن يكون سيد هذه اللوحة، إلى الحد الذي سيجعلك تتخيل أن أي يوم هو يوم جمعة عندما يغلق محله، وهذا ما لن تشعرَ به إن قام غيره بإغلاق محله في أيام الأسبوع العادية.


أصبحت «دكانة» أبو فهد مع الأيام بوصلة للذي يريد أن يصل إلى مكان ما في جوبر، فيمكنك أن ترشد أحدهم إلى الطريق من خلال قولك له: قبل محل أبو فهد بمئة متر، بعد محل أبو فهد ، في شارع أبو فهد ، اسأل عن أبو فهد والجميع سوف يرشدك .. إلخ.


أبو فهد الأُمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب، كانت أقصى طموحاته هو أن يحقق لولديه ما لم يستطع أن يحققه لنفسه، لذلك كان مُنكباً على اهتمامه بتعليمهم أفضل تعليم.


وكانت جملته الشهيرة «أنا تخرجت من مدرسة الحياة» تضفي على أحاديثه طابع الواعظ والحكيم، الذي يريد دائماً أن يقولَ حكمته كيفما اتفق. وبالفعل فأبو فهد تحول إلى حلال مشاكل الحارة، إذا لا يوجد أحد في الحارة إلا ويُدخله وسيطاً لحل مشكلةٍ ما، وقد كان بهدوئه ومحبة الجميع له قادراً على إنهاء أكبر مشكلة.


مع بداية الثورة في عام 2011، كان أبو فهد لا زال محتفظاً بصورة بشار الأسد على واجهة دكانه، كما حال أغلب السوريين قبل الثورة. فمنهم من كان يضعها بأمر مخابراتي، ومنهم من كان يضعها محبةً، ومنهم من كان يضعها نفاقاً، وأبو فهد كان يعترف للجميع أنه في الخانة الأخيرة، وعندما حدث وسألته قبل الثورة: لماذا تنافق؟ أجابني بما معناه أنه لا يعلم لماذا ينافق، ولكن كل ما يعلمه أن هذه الصورة تشعره بالأمان، وخاصة أمام زبائنه ممن يعملون في سلك الشرطة أو المخابرات. وعندما سألته في الشهر الأول للثورة لماذا لا زلت تنافق يا أبو فهد؟ أجابني بما معناه أيضاً: أما هذا فليس نفاقاً إنما خوفاً من نفاق الآخرين، الذين قد يشونَ بي ويحاولون أن «يُبَيضوا صفحتهم على حسابي».


لأبي فهد نظرية مُلفتة في قراءة الوضع السياسي، فقد زرته في إحدى المرات وكانت الثورة قد دخلت شهرها الرابع، وأثناء حماسي وأنا أحدثه عن ضرورة أن تنهض جوبر، وأن أول شهيدين قد سقطوا في تلك الأثناء سيكونان شرارة الثورة في جوبر، وأن جوبر لها أهمية استراتيجية لأنها تعتبر أول مدينة في دمشق و.. إلخ. ابتسم لي وهو يقوم بكبس إحدى الطارات، (وهي طريقة يقوم من خلالها بإعادة التوازن للعجلة التي تبدأ بالاهتزاز لكثرة الاستعمال).


إذن كنت أقول إنه ابتسم لي، وقال: «هذه الطارة هي أشبه بحال البلد، الآن كما ترى، أضعها بين دولابي كماشة وأشد عليها بقوة كي لا تفلت، أجرب تارةً أن أديرها، وعندما أشعر أن هذا الاهتزاز لا زال واضحاً أقوم بخلع بعض الأسياخ المهترئة –الجزء الأضعف في العجلة- وأركب بديلاً لها، فيتحسن أداؤها وتعود للعمل، وأنا موقنٌ أنها ستهتز من جديد، لأنه مهما غيرت في هذه الأسياخ فإن الضغط على القالب سيصبح أكبر، وبالتالي سأكون مضطراً لأن أغير بعض القطع داخل القالب نفسه بعد أن أكون قد ضحيت بالقسم الأكبر من الأسياخ وركبتُ بديلاً عنهم، وسأبقى مضحياً بالأسياخ، طالما أن صاحب هذه العجلة لا يريد أن يدفع كلفة قالب جديد. ولكنه في النهاية سوف يضطر أن يغيره لأنه سيكتشف على المدى البعيد أنه دفع ثمناً أكبر، ولكن حتى هذا القالب الذي سأغيره لن يكون قالباً وطنياً، وفي أحسن الأحوال سوف يكون بالوكالة من إحدى الشركات الأجنبية»، ثم أردَف أبو فهد «يعني هية هية».


أبو فهد من المؤمنين بنظرية المؤامرة، لذلك حاول دائماً أن يكون على الحياد حتى في أحاديثه عن الثورة، فهو من ثُلة «العين ما بتقاوم مخرز»، وكان موقناً شديد اليقين أن هذا النظام سوف يحرق البلد عن بكرة أبيها، ولحسن حظه أو لسوء حظه فقد استشهد في الشهر الخامس للثورة على يدِ قناص، ولم يشهد الكارثة.


 ربما لو كان أبو فهد حياً اليوم وسألناه: ضمن أي مرحلة أصبحت البلاد في نظرية «الطارة» خاصتك؟ لأجابنا ومن دون تردد: إننا في مرحلة تعديل القالب مع استمرارية التضحية بالأسياخ، ولكن أبو فهد حتى في أوسع شطحاته، ما كان له أن يتخيل أن ما يُهيأ لسورية هو مجموعة من القوالب، وبوكالات متعددة ليس منها قالبٌ واحدٌ سيكون صناعة وطنية.


ألا رحمة الله عليك يا «أبو فهد».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +