أمبرتو إيكو يعرف كل شيء

أمبرتو إيكو يعرف كل شيء

تعددت ألقاب أمبرتو إيكو، من المعلّم إلى البروفسوري، مروراً بالحكيم فالعالِم، وليس انتهاءً بـ«الرجل الذي يعرف كل شيء». وقد منّ الله على هذا الفيلسوف بعمرٍ مديد، أثمر عن مسيرةٍ طويلةٍ حافلةٍ بالتساؤلات والنتائج الكبرى. لم يُشفَ من وسواس المعرفة المزمن، كما لم يفلح في ترويض هواجسه الفطريٍّة عن الروح والإيمان من جهة، والعقل والتأويل من جهة أخرى.


لم تُعرف عن هذا الفارس غفوةٌ قاتلة، بل كان الجميع ينتظر عودته من غزوة معرفية شرسة ليجود بالغنائم العلمية على تلاميذه في شتّى أنحاء الأرض. ولم يفوّت لحظة واحدة من حياته دون دراسة، فكان يتغذى على الكتب حتى باتت مكتبته المنزلية مضرب مثلٍ في إيطاليا. ورغم هذا العمل الدؤوب فإنه لم يكن منعزلاً عن قضايا المجتمع الراهنة، فتراه يطلّ على جمهوره أسبوعياً، عبر صحيفة الإسبريسو، ليناقشهم في كلّ صغيرة وكبيرة، من شؤون الإرهاب إلى التشكيلة الوزارية مروراً بتأثير الهواتف الجوالة فرفع الكلفة أو خفضها في المحادثات اليومية. ولئن هاجم مؤخراً فيالق الحمقى التي تجتاح مواقع التواصل، فهذا لأنه بدأ مشواره المهنيّ في برامج الإذاعة والتلفزيون، وخَبِرَ أجواءها باكراً ليقدّم كثيراً من الأبحاث عن سطوة وسائل الإعلام على ذهنية الحشود، فأدّى به هذا المطاف إلى تطوير فرضياته السيميائية التي تناولت دلالات الرموز وأثرها على المتلقّي، فإذا به يساهم في بناء النظرية الأدبية الحديثة يداً بيدٍ مع فولفغانغ إيزر ورولان بارت ورومان ياكوبسون وتيري إيغلتون.


وقد تخدعنا سمات وجهه البريئة، فلا نصدّق أنه مشاكسٌ لمّاح وناقد حادّ ومتأهب. في أيام شبابه أسس مع رفاقه «مجموعة 63» لصدّ موجة الأدب الهابط الذي راج في الخمسينيات، ولتعرية تلك الأحزاب السياسية التي تستغل عواطف الشعب في مآرب ضيقة. وغالباً ما هاجم إيكو النخبة الثقافية المخملية التي تتغنى بمفهوم «المثقف الملتزم» واستفزهم بقوله: «الأمر الوحيد الذي بوسع المثقف فعله إذا شبّ حريقٌ في البيت أن يتصل برجال الإطفاء». وحين اجتمع مؤخراً رئيس الوزراء ماتيو رينزي بعدد من كبار المثقفين مؤكداً على أن الثقافة وحدها ستنقذ العالم، ردّ عليه إيكو قائلاً: «الثقافة لن تنقذ العالم. وليس على عاتق الجمال أن ينقذ العالم. غوبلز كان مثقفاً بارزاً لكن هذا لم يمنعه من خنق ملايين البشر بالغاز. ولا ننس أن كثيراً من المجرمين كانوا مولعين باقتناء اللوحات الجميلة».


كان إيكو بارعاً في فنون اللغة، ولعلّ هذا بفضل إتقانه للاتينية ولغاتٍ أوروبية أخرى جعلت منه فقيهاً لغوياً لا يُشقّ له غبار. كتب ذات مرة موجزاً يلخّص فيه قصة ݒينوكيو الشهيرة بتقنية جبارة، مستخدماً من الكلمات، أسماءً وأفعالاً وظروفاً وحروف جرّ، تبدأ كلّها بحرف «P» تمجيداً لاسم ݒينوكيو.


رمّم أمبرتو إيكو مناهج البحث العلميّ، ما جعل جامعات أوروبا كلها تدين له بتطوير أساليبها في الاستقراء والاستنتاج، بعد أن دخل كتابه «كيف نؤلف أطروحة تخرّج» في برامجها الدراسية. الأمر الذي رسّخ أقدامه في المجال الفكري، فأبحاثه تعدّ فتوحاتٍ لا بدّ أن تضيف إلى المعرفة معلومة جديدة وموثوقة، وكل كتاب يؤلفه لابدّ أن يخلص إلى برهان منوط بتساؤل يمنح العقلانية ديمومتها المستمرة. لم ينشر كتاباً إلا وأغناه بالمخططات التفصيلية والخرائط الدلالية والجداول البيانية والمراجع التاريخية.


بفضل دراساته بات من البديهي دورُ القارئ في النصّ، الذي استحال آلة لا تعمل إلا بالتعاون بين إيحاءات الكاتب وضرورة البحث عن المعنى من قِبل القارئ. تحرر القارئ بفضله من سجن النص المغلق ذي التأويل الواحد ليصبح كلعبة الشطرنج، لا نهاية لاستراتيجياته ولا حدود لمضامينه. وتوّج هذا النقد الأدبي برواياته المعروفة التي ولدت كلها كتطبيق لتلك الفرضيات النقدية، واستثمرت في غالبيتها التقنيات السردية في البحث عن الحقيقة وتفكيك اللغز بطريقة ذكية تجعل من القارئ بطل الرواية، ومن الأحجية البسيطة عمارة هندسية عملاقة محفوفة بالرموز والمتاهات. وفي مجال آخر، حذّر إيكو من الشائعات التي ربطت فكرة الأرض المسطحة بتعاليم الكنيسة في العصور الوسطى، وأثبت علمياً أنّها كانت تؤمن بكروية الأرض إنما قام الخلاف حينها مع العلماء حول مركزية كوكبنا في الكون وعلاقته مع الشمس. كما عرّج نحو الترجمة ومسح عنها غبار المفاهيم السطحية فاستبدل «الأمانة» بـ«الدقة» و«الخيانة» بـ«التفاوض»، وبرهن بالمنطق على وجوب التعامل مع الترجمة الأدبية بوصفها علماً أصيلاً بحدّ ذاته، لا يقلّ أهمية عن الفروع الأخرى.


كلّ ما سبق وأكثر، يبرر لإيكو هذه الهالة التي أحاطت به كفيلسوف مفيد وكمثقف نموذجي لا ينفصل مسارُه الفكريّ عن حياته المهنية، ولا آراؤُه السياسية عن تطلعاته الأدبية، ولا أعماقه النفسية عن دروبه الاجتماعية. إذ عاش تحولاتٍ جذريةً في حياته، فهو لم يرث عن أبيه حرفة الحدادة بل راح يكوّن اسمه بجهده الخاص خلافاً لكثيرٍ من المثقفين الكبار المتناسلين من مثقفين كبار. إيكو الذي نشأ ضمن تربية مسيحية انعطف عنها نحو الحداثة المطلقة. وحاول أن يدرس الأدب المسيحيّ بمنظور عقليّ (أطروحته الجامعية عن توما الإكويني)، الأمر الذي قد يلفت انتباهنا إلى استبساله في بلوغ المعرفة، والانتقال من اليقين الذي يوفّر المعلومة إلى الشكّ الذي ينتج المعلومة ويوثقّها. فالهاجس الإيماني عند الفتى المتدين ظلّ موجوداً في خفايا الكهل المتحرر من أي عقيدة دينية.


صديقه فيتوريو ميسوري اعتاد أن يسأله عن رأيه في الإيمان بالله، فيبوح له إيكو ممازحاً: «لو كان باسكال جاري في البناية لتبادلنا التحية صباحاً بكل احترام دون أن نصبح أصدقاء. أما لو كان توما الإكويني مكانه لأصبح صديقي وكنا لنلعب الورق مساءً، ولكننا سنتشاجر وقد تصل بيننا إلى المحاكم. وقد يشكوني إلى المخابرات بذريعة أنني إرهابيّ». ورغم هذا لم يحصل ميسوري على إجابة حاسمة من إيكو بهذا الخصوص، بل كان الفيلسوف يراوغ دوماً في كلامه عن وجود الله، ويفضّل الحديث عن ارتيابه من الموت ويربطه برحيل والده المفاجئ. «إنني لا أسعى إلى الثأر من أبي كما أوصى فرويد، بل إلى الثأر له. لا أبحث عن مجدٍ شخصيٍّ في مسيرتي الفكرية والمهنية، بل عمّا أرضي به آمال والدي الذي مات قبل أن تتحقق».


رحل الرجل الذي كان يعرف كل شيء. رحل بعد أن حصل على لقب «المثقف الموسوعيّ» بأحقيّة وجدارة. المثقف الذي أراد استيعاب الفلسفة الحديثة بما يساعد الذاكرة البشرية على تلقّف تلك الأبعاد الموسوعية. وهذا ما قد يساهم برأيي في نجاة الروح البشرية، علماً أن أمبرتو إيكو قال في فيلم تسجيليّ قصير من إخراج دافيدي فيراريو 2015: «نحن لسنا إلا ذاكرتنا. الذاكرة هي الروح. نفقد أرواحنا ما إن نفقد الذاكرة... حين أموت سأذكر كل شيء».


ختاماً أودّ أن أثني على مترجمي أمبرتو إيكو إلى اللغة العربية، الذين يعود لهم الفضل في نقله إلينا وجعله واحداً من أعمدة ذاكرتنا الفكرية، ولأنهم ثابروا على ترجمته في أفضل بيان، كأحمد الصمعي، سعيد بنكراد، ناصر مصطفى أبو الهيجاء، عبد الرحمن بو علي، وآخرين.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +