أحلام المثقف في زمن الميلشيات

أحلام المثقف في زمن الميلشيات

كشفت التحولات العميقة التي وصلت إلى أعلى تمظهراتها، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة في اليمن، مقدارَ الحساسيات الطائفية والعصبوية التي يزخر بها المثقف اليمني للأسف.


المثقفون عموماً هم ورثة أحوال الواقع، مع أنهم من يجب أن ينتفضوا عليه ويدفعوه نحو التطور، ذلك قدرهم «العضوي والانشقاقي». والأرجح أن المثقف اليمني يعيش أسوأ ارتطامات أحلامه حالياً، أحلام السيادة والمواطنة والقانون والتحديث.


ثم إنه يعيش زمن الميليشيات، زمن التدخلات الخارجية، زمن التشظيات الذاتية والمجتمعية بشدة، زمن انهيار القيم الوطنية الكبرى باختصار. ذلك أن شروط الواقع القاسية والمتخلفة قد جعلت كثيراً من المثقفين في حالة خصومة مع القيم التي كانوا ينادون بها، وأبرزها قيم الحداثة والتشبث بمحمولات قيم الاعتزاز بالمواطنة والدولة والإبداع الوطني اللائق.


فمثلاً، شاعرُ قصيدة نثرٍ كان من أبرز المناضلين من أجل الحقوق والحريات والديمقراطية، تحوّلَ إلى داعية لحق «الولاية»، ومناصراً لمن اختارهم الله –حسب رؤيته- لتحمل مسؤولية الأمة كسلالة مقدسة!.


كما أن مفكراً وحدوياً ماركسياً علمياً كبيراً، أصبح شوفينياً مخبولاً ينتج الضجيج الجهوي ولا يجلب سوى الاستهزاء جراء انفصاماته المهولة. كذلك في السياق، تحوّل أحد الأكاديميين التنويريين، وكانت إحدى الجماعات الأصولية قد كفّرته قبل ثلاثين عاماً، إلى ابرز المنظرين لها، لمجرد أنها تُعادي من يختلف معهم مذهبياً الآن!


وأما مفاهيم مثل النهضة والتقدم، فقد صارت «لا تؤكّل عيشاً» كما «لا تؤمّن مستقبل الأولاد»، ما أفضى إلى احتقارها من قبل كثيرٍ من المثقفين، ويا للأسف.


غير أن كل هذا الانحدار بالطبع، لا يعني عدم وجود مثقفين عصاة على الإخضاع، بل العكس. فهنالك نماذج إيجابية مشرفة من المثقفين لا ينكسرون أو يمارسون المداهنة والانحناء، كما لا يجعلون حسهم الثقافي والسياسي والاجتماعي رهناً لإملاءات العصبوية، ومصالحها ذات الأمراض ما قبل الوطنية.


إلا أن الفعل السلبي لعدد كبيرٍ من المثقفين اليمنيين يكمن في أنهم بلا موقف حاسم وغير مراوغ  من أمراض مجتمعهم اللاوطنية، لتكون النتيجة: مثقفون بنكساتٍ مخزية، وبوجوه بلا ماء، إذا جاز التعبير .


وأما مع شيوع مختلف الأنمطة الشوهاء والمأزومة في إدارة الدولة والمجتمع، وصولاً إلى الحرب الأهلية بمختلف تداعياتها المهولة، كان من الطبيعي أن نشهد انهيارات فادحة لمثقفين يمنيين، فضلوا الاستسلام لمحمولات هوياتهم البدائية، والمشاركة في سحق أحلام المشروع الوطني الكبير، واعتبار الجماعة هي الوطن، مع شرعنة انحرافها وتكريس مظاهر المثقف الانتهازي والمستلب!.


يمكن القول إنه ما بين عامي 2011 و2015 تعرت المستويات النفسية والمعرفية والوطنية للمثقف اليمني بشكلٍ غير مسبوف، لذلك تتفاقم محنة المثقف المدني المنحاز لفكرة التعايش المشترك وخدمة المصالح الوطنية العامة، خلافاً للذين تقوقعوا في تنمية المصالح الخاصة لهم ولجماعاتهم، باعتبارهم النوع المغشوش من المثقفين الذين تنحصر مهمتهم في إعادة إنتاج المشاريع الصغيرة والرثة، آملين بالحماية الاجتماعية والسياسية التي يوفرها لهم هذا الانحياز البدائي!.


والشاهد أن التحولات الحاصلة قد عرّت كثيراً من النخب، كما جعلت البقية في حالة اختبارٍ كبيرة، ما يستدعي منها تبيان مواقفها من ظواهر الإرهاب و«ملشنة» المجتمع «وتطييف» الصراع السياسي، بكل وضوح وبلا تعقيدات.


صحيحٌ أن الوجود الاغترابي على رأس أزمات المثقف هنا، وقد صارت تحاصره الهويات المناطقية والمذهبية، لتجعل وعي الدولة والمواطنة يتراجع إلى أقصى الهامش، بينما يقفز وعي العصبويات إلى المتن في أولويات عديدٍ من المثقفين، إلا أن الصورة مازالت فاعلة بالنسبة للمثقف الحداثي الوطني، الذي لا يرضخ للثقافة الإقصائية المسيطرة، فضلاً عن مكاسب الجماعات المغلقة، ومراكز القوى التقليدية أيضاً.


والصادم هم أولئك الذين -باسم الثقافة- يمارسون الانتقال من الضد إلى الضد، فيستنهضون التبرير والوعي الزائف، كما يبررون اجتثاث خصومهم بكل أريحية وانفصامية واستخفاف، مع أنهم كانوا إلى قبل أعوام قليلة مثلاً، يطالبون بالتسامح والشراكة والمصالحة والسلام!


والحاصلُ أن الواقع يقيّد مسعى اليمنيين الوطني الجامع، وعلى رأسهم المثقفون بالضرورة، بين فكي كماشة رهيبة وقاسية تماماً. وفي خضم الصراعات والتحيزات المعقدة القائمة في اليمن اليوم، يحاول المثقف اليمني المتسق مع مبادئه أخلاقياً وقيمياً، الانحياز جاهداً إلى ما يمثلُ جامعاً وطنياً، والتموضع داخل حلم دولة التمدن  والمواطنة.


لكن ثمة تجاذبات ومصالح ملوثة أفرزت مشاريع طغيانية وإقصائية صادمة، تتفاقم في خضمها بالضرورة مكابدات أحلام المثقف اليمني المغترب في زمن الميلشيات، وهو الزمن الفظيع بتداعياته الأشدّ كارثية على الوجدان والموقف معاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +