من سيحاسب من؟!

من سيحاسب من؟!

يوم وصل إلى المكان المهدّم بعد ساعات من خبر سقوطه؛ نظر إليه بكل الصُّور المتراكبة أمامه، ولاحت بقاياه على كل شيء. تداخلت الحجارة في «أرابيسك» الهدم، وعشّقت ذاكرتُه في النشيد الوطني، ليسخر من وجوده كآلة موسيقية تعزف في رأسه طبول الحرب، فيستعير «اللامبالاة» كحلٍّ وحيد للبقاء.


لاحت له رواية «الغريب» لألبير كامو؛ تحسّس ما في قلبه من رعشة، فاللامبالاة تصنع قاتلاً تحت وهج الشمس، ولكنْ لم يسعفه الوقوف فانحنى على ما تبقّى منه، وبدأ يقلّب الغبار.


لم يكن لدينا الوقت، كنّا نخرج من بيوتنا متحفزين خائفين نزقين ودون يقينٍ بأنّا سنأتي لأطفالنا بالخبز والحليب، يدعونا الله أول الفجر للصلاة والعمل فتنهض قلوبنا. نرفع أيدينا الخشنة ونطلب ما لا نحلم به، ثم نقف في الطوابير الطويلة ونمتهن ثقافة الخوف حين يعتدي أحدٌ ما على دورنا في الحياة، ويمارس علينا لغةً هجينة سائدة، فيُطلق «قافاً» كنا كلّنا نجيدها ونخشاها في آن معاً.


نطرق برؤوسنا وكأن حرف «القاف» يتفحصنا بعينيه ويقرأ همسنا الداخلي، ثم يصرخ فينا «شو يا حبيب» فنزداد إمعاناً ويزداد تمادياً، يرتعش قلبك، وترفع كتفك الأيمن فينطفئ صدرك، وتتوارى عيناك إلى الأبد.


كنا نذهب إلى جامعاتنا، نبحث في مقاهيها عن عرينا وخوفنا، نستعيرُ ما يشبه الشجاعة لنبدأ حديثاً عن الحرية والثورة الفرنسية وعن أشعار أمل دنقل، ونُهِّرب بيتاً من الشعر لأحمد مطر تحت قمصاننا ونتغامز «عباس يشحذ سكينه».


نتحسر على مظفر النواب، ونذيّل حديثنا معه بأنّنا في سوريا احتويناه يوم هرب من ظلم العراق إلى قلوبنا الكبيرة، هو لم يكن يعنينا يوم نادانا بـ«أولاد القحبة»، وعن حسن نية ننسى أنه لم يستثنِ منّا أحداً.


ونجد ربطاً بين الثالوث المقدس «الحرية - العدالة - المساواة» وبين «الوحدة -الحرية - الاشتراكية»، لنتحول إلى الجوع العبقري الذي اختاره أمل دنقل، فننظر لسياسة الجزرة الحكيمة وقدرتها على الخلق والولادة .


نمرّ أمام مسارح الجامعة وأماسيها ومحاضراتها وكأنها لا تعنينا، فليس المهمُّ كيف تكتب وكيف تنجح، المهمُّ فينا أن تكون عضواً عاملاً تحفظ المنطلقات النظرية وتجيد الخطابة، فنحن مذ خلقنا روّاداً على مستوى القطر في الرضا، وكأنّ الكنز الذي لا يفنى «القناعة» ملأ جيوبنا الخاوية.


كنا نمرُّ بصُحُفنا ونشرات أخبارنا دون أن نلتفت، هبْ أنك اشتريتَ جريدة لا لتقرأها، بل لتمسح أمك زجاج المنزل بها، فتتجنب الصفحات التي يبدو لك فيها المُفدّى وصاحب «القاف»، وتختار لزجاجك مقالةً عن التطور الإبداعي في الفنون الراديكالية لكاتبٍ ما، ثم لا تعرف بعدها كيف يبدو زجاجك أكثر غبشاً.


علينا أن نخافَ من الإصابة بعدوى الجرأة فنخرج من قطيع الأموات، أوَلَيس من العار أن يكون اسم وزير التعليم العالي رهاناً تشرب بكسبه فنجان قهوة في الجامعة كل يوم على حساب أصدقائك؟!


علينا ألّا نُضيع لهم الغد الذي رُسم لنا، وأن نبحث عن الضوء في المرايا حين «تبدو الأشياء أقرب من الحقيقة».


كبرنا ضعفاء هزيلين مستباحين وأقزاماً، نمرُّ بوطننا دون أن ننتمي، نبحث عنه في مجموعة أوراق تثبت وجودك وانتماءك، من شهادة الميلاد إلى وثيقة الموت الأخير، هناك الكثير الكثير من الطوابع والأختام المدورة الحمراء.


«اعتزّ بنفسك» يرتعش قلبي من جديد، فأقفُ مُطرقاً برأسي مرة أخرى أمام بيتي المهدّم، دون أن ألتفت إلى الصوت القادم من بعيد.


وأقول في نفسي: «من سيحاسب من»؟!


يُجيبني حكيم مرزوقي: «أوقفوا هذا العالم.. أُريد أن أنزل».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +