أريد فلافل!

أريد فلافل!

لم يكن المكان يتسع لحمزة، بل كان هو من يسعُ المكان.


ذلك الوجه الجميل ذو الثلاثة أعوام، تنبضُ فيه الحياة بكل شغفها وعنفوانها لتصبح قوةً تعجز أقسى الظروف عن الوقوف في وجهها.


في أحد أيام الشهر الثاني من العام 2014، وفي مهجعٍ يكاد لا يتسع سوى لجسده الصغير ليتمدد مرتاحاً، التقينا. حين دخل من الباب كان وجه أمه المذعور ووجه أخته المتعب يُنبئان بالكثير، بيد أنه كان مبتسماً رغم كل شيء. لم تستطع النسوة حين رأينه إلا أن يُكبِرنه، ويقطّعن غصاتهنّ بحدّ الصمت. كانت لحظةً لزجة تكاد لا تنتهي، بدأت ملامح التعجب تكسو براءة وجهه.


لأتغلبَ على قسوة تلك اللحظة، بادرته الابتسام والسؤال عن اسمه:


«حمذة.. وانتي ثو اثمك؟»، وهنا ابتدأت صداقتنا.


لم تستطع والدته في كثيرٍ من الأحيان الإجابة على تساؤلاته الكثيرة، بل كانت تبادرها بالابتسام:


«لماذا يجب أن أنام الآن وأنا لا أرى الليل؟ لو كان حقاً هو الليل، لماذا لا يطفئون هذا الضوء القوي؟ لماذا يجب أن استيقظ، وليس هناك شمسٌ في الخارج؟ لقد مللت، متى سنخرج من هنا؟


لم يدرك الطفل البريء أين هو، ولماذا هو هنا مع عائلته التي اعتُقلت بأجمعها عند محاولتهم العودة إلى منزلهم الذي غادروه سابقاً، بسبب اشتعال المنطقة التي كانوا يقطنونها.


رغم ضيق المكان، إلا أن الوقت كان يعني له اللعب فقط. بدأ بمناداتي بطريقته التي زادتها اللدغة ظُرفاً: «هيا لنلعب»، وهذا ما كنا نقوم به بمشاركة أخته التي تكبره بعامٍ واحد.


في اليوم الثالث لم يستطع حمزة اللعب كعادته، كان خائرَ القوى من الجوع، حيث أنه لم يستسغ طعام الأفرع الأمنية بالمطلق. في ذلك اليوم استيقظنا جميعاً على قرع الباب بقوة، كانت والدته تنادي السجّان، وبعد مدة  استجاب أحدهم صارخاً بهمجية:


- «ماذا تريدين؟».


- «أريدُ طعاماً لطفلي... أرجوك... إنه متعب جداً ولا يستطيع تناول هذا الطعام».


- «أتمزحين معي؟ أتعتقدين أن لا عمل لنا سوى تلبية طلباتك وطلبات طفلك؟».


يغلقُ طاقة الباب بعنفٍ في وجهها، إلا أن ذلك لم يردعها عن القرع مرةً كل عدة ساعات.


«بتي فلافل ماما»، هذه الكلمات الوحيدة التي قالها حمزة يومها، وهي ذات الكلمات التي جعلتها تُصرّ وتتحمل التوبيخ كل مرة.


مرّ النهار ثقيلاً، لم تستطع نكاتي أو دعواتي له باللعب أن تجعله يبتسم، وبرغم كل ذلك لم تبكِ والدته بل استمرّت بإصرار، إلا أن الوقت مرّ دون فائدة كطفيليٍ يتغذى على إصرارها هذا، إلى أن بَلَغَت الذُبى.


بعد مرور حوالي العشر ساعات، وأثناء إعادة إحدى المعتقلات من التحقيق، وقفت والدة حمزة حاملةً ابنها المنهك بين ذراعيها، نظرت لعنصر الأمن مرة أخرى بدمعٍ انهمر دون بكاء، وقالت بصوتٍ مخنوق: «لو سمحت أريد طعاماً لابني.. سندويشة فلافل تفي بالغرض.. أتوسل إليك».


بعد ساعة جاء عنصر الأمن حاملاً رغيف خبز فيه قرص فلافلٍ واحد، ورماه لها وكأن ما فعله معجزة. بكثيرٍ من الخبز وقرص فلافل مغمسٍ بدمعها، أكلَ حمزة وعادت الابتسامة تعلو محياه.


منذ بداية الثورة اعتدتُ زيارة بعض الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي التي توثّق وتؤرشف أسماء المفقودين والمعتقلين، أمرّ على خبرٍ مؤخراً «مفقود منذ عامين مع زوجته وطفليه الاثنين مع ذكر أسمائهم»، يعودُ اسمُ حمزة لي، لا ليرسمَ ابتسامةً هذه المرة، بل ليأخذ ما تبقى من رباطة جأشي.


لم يستطع أحدٌ حتى الآن إحصاء عدد الأطفال الذين اعتقلتهم قوات الأسد خلال سني الثورة بدقة، بيد أنه وحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الأطفال المعتقلين دون سن الثامنة عشر 9500 حتى أواخر 2014، 79 منهم قضوا تحت التعذيب.


في مثل هذا الشهر منذ عامين كان أول لقاء لي بحمزة، و آخر لقاء.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +