رائحة الخبز الرطبة

رائحة الخبز الرطبة

يرفع رأسه مستيقظاً من نومه القلق، العتمة تزيد المكان وحشة مع الأجساد الملقاة على الأرض، أصواتُ الأنين الصادرة من الصدور المتعبة والأمعاء الفارغة تزيد الغرفة الصغيرة كآبةً.


يسندُ ظهره المقوس من القهر على جدار رطب بفعل مطر الشتاء والبرد المزمن في عظام الجسد، البطانية الصوفية لم تعد تكفي للدفء على الرغم من الزفرات الدافئة التي تخرج من النائمين، فتبعثُ قليلاً من هذا الدفء. يضعُ رأسه على الجدار البارد، يغمضُ عينيه علّه يحلم بيومٍ أجمل، يومٍ ذهبَ ولن يعود أبداً.


عيناه تعودتا الظلمة، وباتت مقدرته على الرؤية في الليل أفضل منها في النهار، شعرَ بنفسه يتحول إلى خفاش يحب العتمة، لأنها ترسل إلى رأسه كل الخيالات التي كان يعيشها واقعاً فيما مضى: المدرسة، طريق العودة، وياسمين الجميلة التي وعدته والدته يوماً أنها ستكلم والده بشأنها عندما يحصل على الثانوية وينهي خدمة العلم الإلزامية. ضمَّ ساقيه إلى جسده مكوّراً نفسه، واضعاً رأسه على ركبتيه، وبدأت حبّات الحياة تهطل من عينيه رغما ًعنه.


«من قال أن الرجال لا يبكون؟ من قال أن أحداً لا يموت من الجوع ؟»، رفعَ رأسه، وبدأت تتداخل رطوبة عينيه بالخيالات التي تعيده إلى تلك الأيام التي حلم فيها أنه على كرسي العرس بجانب ياسمينته، التي تحوّلت إلى حلمٍ جميل.


تذكّر أنه لم يكلمها يوماً، وأنه أحبّها عن بعد، ربما من طرفٍ واحد. كانت تنظرُ إليه كل مرة تراه فيها، ربّما تحبه، ربّما تشفق عليه، وربما كان الفضول هو من جعلها تنظر إليه في كلّ مرة. هذه التحولات أصبحت بلا معنى، لأن الثابت أن ياسمين خرجت من هذا العالم بلا عودة، وودّعت الجميع قبل أن ترحل إلى مشرق الشمس وتعانق هناك خيوط الأبدية، وتغرقَ في ضياء الذكريات تحت تراب القهر، والجوع، والموت اليومي.


تحسّس جيبه، انغرسَ طرف قطعة الخبز اليابس في إصبعه، شعرَ بوجودها، افترّت ابتسامة على شفتيه واحتضنها في كفّه بحذرٍ شديد، لكنّ ذكرى ياسمين كانت تخترق تلافيف دماغه، قبضَ عليها بكفّه، وهرسها بين أصابعه «ترى لو كانت هذه القطعة لدى ياسمينتي، هل كانت الآن هناك؟».


سحبَ يده من جيب سترته وفتح كفّه، ليرى حياةً أُزهقت من أجل هذه الحفنة من الخبز. يدعكها مرّة أخرى بأصابعه التي تريد أن تنتقم من الخبز، الذي ما عاد يصل بالإنسان إلى برّ الأمان!


ساعاتُ الصباح الأولى بدأت تتسلل إلى الغرفة التي أُعدت لحماية العائلة من القذائف والبراميل، ولكن ماذا لو أن برميلاً حاقداً حجزهم تحت الأنقاض؟


«تكون الحياة والموت متساويان في كل شيء، الموت جوعاً أو حرقاً أو خنقاً تحت الأنقاض، أو البقاء على قيد الحياة أو قيد الجوع أو قيد القهر، تعدّدت الأسباب والإنسان ميتٌ في كل الأحوال!».


أصواتٌ صاخبةٌ تجتاح مسامعه، كل أهل البلدة قد خرجوا إلى الساحة، كلماتٌ يسمعها ويحاول فكَّ طلاسمها، ولكنه لا يستطيع.


بدأ الوهن يدبّ في مفاصله شيئا فشيئاً، ساعاتُ الانتظار كانت طويلةً جداً، لكن في النهاية وصلت قافلة الحياة المؤقتة. عدّة سيارات كبيرة تحمل بعض المواد الغذائية والطحين، قال جاره الذي يجلس بجانبه في ساحة البلدة: «إنها مساعدات الأمم المتحدة، لقد جاء الفرج ولكننا لن نستطيع أن نأكل أكثر من وجبةٍ واحدة في اليوم، لتكفينا الكمية أكبر وقت ممكن!».


الطحينُ الأبيض يغازل عينيه الذابلتين من الوهن، ابتسامةٌ ترتسم على شفتيه، يتذكر ياسمينته: «لو أنها انتظرت هذا اليوم، ولو أنها شاهدت منظر الطحين الجميل، لو أنها فقط انتظرتني!».


بدأت الأيدي تعجن المسحوق الأبيض، وعيناه مسمّرتان على «طشت» العجين تمهيداً لخبزه وإنهاء حصار الأمعاء الخاوية، الذي فُرِضَ بقوة السلاح الغادر. الأيدي ترتفع إلى الأعلى، حاملة ًمعها ما يسيل من العجين لتهبط بصوت أشبه بالصفعات، والعينان مستمرتان على قطعة العجين، وياسمين، وقطعة الخبز اليابسة التي رفض أكلها منذ أن أعطيت له لردع شبح الجوع عنه لو قليلاً.


رائحة الخبز الرطبة بدأت تنفذُ إلى أنفه، ثم إلى رأسه، استنشقَ هذه الرائحة عميقاً عميقاً وصرخ بأعلى صوته «ياسمينتي»، ثم استنشق شهيقه الأخير، ليذهب باتجاه مشرق الشمس ويعانق خيوط الأبدية، لتكون رائحة الخبز الرطبة آخرَ ما يدخل رئتيه، في رحلته نحو فضاء الياسمين!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +