رسائل السوريين، ومقبرة الغرباء

رسائل السوريين، ومقبرة الغرباء

لم أجد في الروايات التي رُويت عن الغرباء، معنى يحايث التئام أرواحنا بالعدم، لما نمرّ به أو يمرّ بنا ويعبرنا كقطار. العبور كمعنى يفتقُ فينا اليتم الذي لم ندركه إلا بعد أن تطايرنا ورقاً في شتاء الاغتراب، الاغتراب الذي يبدو سِفراً لا مرحلة.


أهي العزلة أم تسطح الحواس، خياران مشهران بوجه رفاق المهجر الذين وصلوا مسكونين بوطن يحتضر، وباتوا يتابعون أخباره غير السارة دوماً عبر الشاشة. أصرُّ في هذياني هذا على ألا أستحضر شيئاً من المجاز، لأنه يستحثُّ ذائقةً جماليةً ليست تجدي وهذا الخوض، فالمجاز ينهض بصورة واقعية لتبدو فاقعةً كخيال، ولأن الواقع أشد مرارة فبدعة التخييل تدفع لأن يصفق البعض للغتك وريشتك، لا لجرحك. نتشبثُ إذن بتراب التجربة، ونتنفسه طازجاً وننقل لونه بشيءٍ من التهذيب، بإزاحة لون الدم بما يلائم مزاج الآخر، الآخر الذي تقمصنا كثيراً منه، لغةً وطبائعَ وثقافة. بل وعولنا عليه في ثورتنا التي عشناها كأنشودة حياة أو قصيدة أو مسرحية عمرٍ أخير، وانتظرنا أن يصفق لنا، لكنه لم ينكس رأسه حتى عندما داهمت أطفالنا المجزرة.


كان علينا أن نعوّل على بعضنا، وأن نمتلئ بيقينِ أن نطرق بحجرٍ صدرونا ونقول: هنا نحن، هنا كلنا بقمحنا، وسمرتنا، وفظاظة اشتغالنا على ذواتنا، والوشائج التي تمزقت مثل ريش الوسائد بعصف ريح، وهنا رفاتُ أوطاننا التي حملناها معنا بكل أمراضنا وشوقنا والحنين.


كنتُ أرقب المهاجرين، وكتبت جملةً واحدة: «لمن تتركون البلاد»، تلك كانت قصيدتي عنواناً ومتناً وهوامش. وبنزق العابث لم أكملها، فهي كل شيء، هي الرواية والحكاية والنهايات التي تحزّ القلب كقوسٍ يمر على جرح الرباب. وجدتني بُعيدَ حينٍ أُتمُّ اختزالي للحياة-القصيدة بترنيمة: «لمن تركنا البلاد».


وإذ كنا غرباء في بلادنا؛ والغربة غربة الروح لا غربة الجسد، لم يكن حنينٌ كهذا الذي يسكننا ليخفف من ثقله إحاطة الأرض، ورائحة التراب في أول زخة مطر، والأهل وكل ما كان هناك. وبتنا نبحثُ عن بدائل له هنا، تلك الأشياء والأماكن والمعاني تكاد تشبه لازمةً موسيقية تمثل خلفيةً لمشهد حياتنا بكل تحولاته. للتو نكتشف ذلك، كما البحر بالنسبة لابن المدينة الساحلية،  والصحراء بالنسبة لابن مدينةٍ تغط في غبار القفار النائية، تطبّع منها وبها، لا يتفقدها وقد لا يعيرها من عينيه ما يعادل حصتها من عين الزائر أو السائح، وعاشَ بعقيرة الابن الضال، لكنه لم يتصور أن يستيقظ ذات صباح ليجد المدينة بلا بحرٍ أو صحراء.


قرأنا في كتبنا المدرسية والأدبية من ثم، عن أدب المهجر وعن الحنين لأحجار البلاد وقحطها وقفارها، غير أن المهجر كان يمثل لنا ترفاً صعب المنال، بينما والحاضر الذي يحزّ أعناق قلوبنا يدفعنا لتلمس الوجه الخفي للهجرة، والقولِ إننا لسنا ثلة مهاجرين بل نحن شعبٌ يهاجر، بكل ما للمفردة من معنى ووقع، ليبدو المهجر ملجأً، وتبدو الحياة الجديدة بحد ذاتها كالعناية بنبات مؤقت، أو خيمة نؤثثها إلى حين، تتنازعها رياح الحنين فنثبتها بأوتاد التشبث بغريزة الحياة، الحياة الملغومة بالموت، بأرواحنا المنذورة والأماني المطفأة بين حرائق البلاد ولجة البحار، الموت الذي تعثّر به السوريون في الطريق إلى الحياة بين ركام البلاد وأسلاك الحدود وبلدان العبور.


هناك من ماتوا مجهولين بلا من يعلقُ لهم نعوة على وجه جدار، أو يصفع الريح بصرخة فقدهم. موتٌ صامتٌ، أو أنه يخاطبُ سمع كائناتٍ لسنا في سويتها ولا ندرك لغتها. تواضعت الشعوب على رمز لمفقوديها في الحروب، ونُصبٍ أسمته نصب الجندي المجهول، ونحن السوريين بعدما ضاقت أرض بلادنا بالنُصُب، وبالموتى بلا نُصُب، نوزع جثثنا على أصقاع الأرض، وسنحتاج بعد حينٍ إلى تراب يضم من يقضي بعيداً، والبحر كل البحر نصب مستوٍ لموتى شعبنا المجهول.


كلمة الشيخ الذي يهيئ الغرقى السوريين بأزمير للدفن وهو يبكي: «لم أجد أحداً يصلي خلفي في جنازة الطفل السوري الغريق»، إذ لم ينجُ من جثامين الأسرة سوى رسولها الطفل الذي انتشلوا جثته، وأهالوا على وجهه التراب بلا اسم، وبرقم 4429.


رسالةُ الشاعر السوري نوري الجراح مساء 27 من كانون الثاني نقلاً عن متطوعٍ يجفف بلل السوريين من برد البحر، ودهشةُ غرق الرفاق لدى من تبقى في المركب الطري على قسوة هذا البحر: «لم يصل أحدٌ إلى جزيرة ليسبوس»، وحده المركب الخشبي نجا، لم يجد وحلاً يدس رأسه فيه، فنكست مقدمته في مياه البحر كأنه مثقلٌ بالخجل.


رسالةُ الفتاة التي قررت اللحاق بمن تحب مع أهلها، عتابُها في دفتر المذكرات الصغير الذي نجا من البلل.


حسام ذيب ثائرُ جبل العرب الجميل الذي قاد كتيبة من الصحب، وحاربته شياطين الثورة وإنس النظام، أفلسَ على الطريق قبل البحر، اتصل بخطيبته لترسل له ثمن عبور البحر، نجا وغادر أثينا مثخناً بجراح الوطن والثورة. أذكرُ أنه حدثني عن بطاقة ذاكرة مكتظة بصور، ونسخٍ من عروض فروع الأمن الوثني، بين عصاها وجزرتها، وأمراء الحرب وممثلي الثورة، ومهرجيها وكبار الكسبة. نجا من موتٍ هناك ومن حدودٍ وحدود، وصل هنغاريا واختفى، أخيراً يظهر الخبر: «توفي بحادث سيارة التهريب، وتم دفنه في مقبرة الغرباء».


الإنسان الضحية ساحته سوريا الآن، نوزع على العالم ساحاتنا أو نأخذ منها شيئاً ليس أكثر من مقبرة الغرباء، وإذ يجرحنا الحنين إلى سوريا الأم الرؤوم في القرية، التي كلما نوينا السفر مدت يدها إلى عُبِّها، لتخرج لنا بضع قروش بيضاء خبأتها ليومها الأسود، واليومُ الأسود صار عمراً حافلاً بالذكريات والآمال المعللة بالتعب المؤجل.


سوريا، طائر الفينيق يحترق ويوزع ريشاته على كل أرجاء الأرض، وسيُبعث من جديد. هذي هي البلاد، فلا تبخسوا أُمّنا الثمن أيها المهاجرون، فليكن بيننا الخيميائي الذي يسعى لجوهر البلاد مهما ابتعد، كزهرة عباد شمسٍ نشاهد الحرية والقيم، ونمتشق قامات أرواحنا في كل أصقاع الأرض، متكئين على جذوع أعمارنا وجذورها في تراب الوطن.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +