ليسوا مادّتكم المسلّية

ليسوا مادّتكم المسلّية

حين تضج أي صالة بالضحك، فمن المفترض أن يترك المكان والزمن إنطباعاً حسناً في ذاكرة كل من شهد ولادة سخرية موفقة، لكن هل سيحافظ هذا الأثر على شروطه الحيوية التي تجعل منه «حسناً»، حين يتجاوز الضحك حدود مداه المجدي زمنياً ومكانياً، مُقتحماً فضاءات الحياة اليومية دون أي ترجمة فعلية ومعاصرة لهذه الأصوات المتكررة والبدائية.


لا نحمّل السخرية هنا ما لا طاقة لها به، لا سيما وأن التعريفات المتواترة إلينا سواء من الفلاسفة أو الفنانين عبر عصورٍ متباينة، تتفق في معظمها وإن بصيغٍ مختلفة على اعتبار الخلل الكامن بين الواقع الملموس أو المنشود، وبين الخطاب الموّصف لهذا الواقع مَثاراً للسخرية.


إذن تسعى السخرية للفت النظر إلى هذا الصدع في البنية الاجتماعية أو السياسية، وبينما يشعر الجمهور بوجودهم في مكان آمن داخل هذه الأنظمة، يتطوع الساخر لاسكتشاف الصدع، حيث سيصرخ من هناك مشككاً في النعيم الذي يعيشه كل من سمع نداءه.


هذا الخرق في المُتصَالَح عليه بالمجتمع والثقافة الإنسانية، يفضي حتماً إلى الضحك بحسب مبادئ غرايس، لكن هل سيتعاطى الجمهور مع كل خرق بذات السوية؟! هل سيُعتبَرُ القتل مثلاً فعلاً ساخراً؟!


في الحقيقة إن أي تنبيه مفاجئ لروتين الجهاز العصبي الاجتماعي يستوجب انعكاساً داغصياً في حركاته الإرادية، في الفزع غالباً ما يكون الهرب انعكاساً مناسباً، أما السخرية المثيرة للشك/الصدمة فقد تعارف المجتمع على الضحك أمامها، لكنه يتحول إلى نوع من فصيلة الهرب حين لا نُقدم على شيء سواه أمام هول الحقيقة الذي تحمله السخرية.


ومع سعي السلطة الاجتماعية أو السياسية إلى تزوير المفردات التي تستهدفها السخرية «الواقع والخطاب الذي يصفه»، ومنحها أسماء مستعارة تستند إلى حامل أخلاقي لكن دون أي تغيير جذري، بات من الصعب التمييز بين الحقيقي والمزيف، بعد هذا العطب الكبير الذي نجحت السلطة في إلحاقه بآلية عمل السخرية.


يبدو ذلك واضحاً من خلال الحكاية القصيرة جداً التي قدمها لنا أدب بلاد الرافدين، أقدم أدب عرفته البشرية حتى اللحظة، وتقول حكاية «الكاهن والأسد» تماماً:


«أبصرَ أحد الكهنة أسداً في البادية وهو في طريق عودته إلى المدينة فملكه الرعب والهلع، ولمّا نجا من الأسد وبلغ المدينة، رأى عند بابها تمثال أسد رابض فهجم عليه ولطمه على وجهه قائلاً: ماذا كان يفعل أخوك في البادية؟».


هذا العنف بالوكالة الممنوح من قبل السلطة الديكتاتورية لأفراد معينين من رعيتها، لازلنا نعيشه حتى اليوم لكن بمسميات مختلفة، فالعنف الأسري ليس تفريغاً للقهر بمن هم أدنى، إنما تربية، وقصف محافظة إدلب من قبل النظام السوري رداً على غارة إسرائيلية ليس إرهاباً، إنما محاربةً لأعداء الداخل الأشد خطراً.


وأمام استهلاك السخرية وتطبيعها مع خطاب النظام منذ ملايين السنيين، بات الكلام أعلاه غير ذو قيمة، بل أنه أصبح مستهدفاً للمجتمع ذاته وليس قياداته الكاذبة، سواء أكانت هذه القيادات أشخاصاً أم مفاهيم.


هنا أصبح الجمهور يضحك من السخرية كصك براءة الذمة، مشاركاً الساخر في موقفه، ثم لا يلبث أن يشعر بالضيق نتيجة هذا الشك المتسرب إلى مسلماته تماماً كشعور الطاغية أمام التشكيك بفردانيته وصوابه، فيتحول من الضحك «السيادي» الذي يعتبره روسو، طريقةً للابتعاد خطوات عن ذواتنا، بما يسمح برؤيتها بشكل أوضح وتقييم أفعالنا وممارساتنا وعيوبنا، والاقتناع بأن الحقيقة غير ثابتة ومتحركة، لندخلَ في حالة متسلطةٍ ومتعالية من الضحك، وكأن إيغالنا في الجريمة غير الواعية والمتوارثة أباً عن جد تتطلب منّا هروباً مفرطاً إلى هذا الحد، نستطيع أن نلمس ذلك واضحاً في المسرحيات الكوميدية التي قدمت في ظل النظام السوري. يمكنك أن تضحك كما شئت، لكن ما أن تحاول أن تأخذ هذا الكلام محمل الجد حتى تُتهم بالخيانة، حتى ولو كانت سخريتك انتقاداً لسير عمل البلديات، قضى محمد الماغوط معظم حياته في السجون أو بانتظار الاعتقال لأسباب مشابهة، هذه ليست مبالغة، هذا تاريخنا.


يحدث تواطؤٌ سري لدى الجمهور لتهميش واستسخاف الساخر، كفعلٍ موازٍ للقتل، لكنه أقل صراحة وأكثر حضارية أمام مفهوم حرية التعبير، ليس مبالغة أيضاً، سبق للسخرية أن قادت سقراط إلى الإعدام بسبب أسلوبه الساخر الذي أذاع الشك في مقدسات أثينا «الديموقراطية».


وبينما يقف الساخر مدهوشاً من أفواج الأسنان المشوهة التي تهرسه أينما صادفته، وكأن الضحك عليه ومنه، وليس بسبب «صدمة المفارقة»، تستمر القيمة الاحتياطية للسخرية بالإنهيار أمام تكرار إنتاج السلطات المتعاقبة لنُسخٍ مزيفةٍ عن الحقيقة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +