التطرّف والتطرّف المضاد

التطرّف والتطرّف المضاد

على مدى التاريخ كان الشر يجلب الشر، والتطرف يغذي التطرف، والعنف عدو الاستقرار، وللأسف: من مشكاة واحدة تخرج ترهيبات الأخوان والحوثيين ضد بقية المجتمع اليمني اليوم، إذ يصرّ الأخوان الذين ينتمي لهم الجزء الأوسع من المقاومة على تسمية من يختلفون معهم بالمحايدين، بينما الجماعة الحوثية تصرّ على تسميتهم بالمرجفين.


كل ذلك طبعاً بمزاعم وطنية احتكارية، كما بضراوة إقصائية تلفيقية شديدة الفجاجة. أي أن كل يمني ينتقد ممارسات انتهاكية لأيٍ من هؤلاء يصير مرجفاً أو محايداً بنظرهم، فلا يحق لليمني أن يصرخ؛ والمطلوب منه فقط أن يتحيز مع طرف ضد آخر، وأن يغضّ الطرف كلياً عن الأخطاء. في الحقيقة تبقى المقاومة حقاً مشروعاً أصيلاً، لكن القصة لم تعد مقاومة والسلام، وإنما تطورت إلى مشهدٍ مفتوحٍ ومتداخل بأبعاد عديدة متجاذبة ومتنافرة!


اليمنيون يكابدون جحيم الفاشية الانقلابية والتدخل الخارجي وسلبية شرعية هادي وحلفائه معاً، ولذلك مهما ضجت اسطوانة المأزومين فإنه لا مناص من التشبث بأخلاقية المقاومة التي يفترض أنها ضد الإرهاب، وأنها لا تحترم سوى مفاعيل المواطنة والدولة. أما اليوم فوعي المقاومة في مأزق، لأنها تكاد تتماهى مع وعي الميليشيا الانقلابية، والثابت أن مشروع المقاومة لن ينجو إلا في إطار المشروع الوطني، لا في إطار صراعٍ سني شيعي، ولا في إطار صراع الوكالة الإقليمي السعودي الإيراني.


والمعنى أنه يجب تجنب خطورة تطييف الصراع، ويجب ألا تنفصل المقاومة عن السياسة، فضلاً عن أنه ينبغي عدم الاستخفاف بالواقع المربك وتعقيداته اجتماعياً وثقافياً، ما يستدعي تحدياتٍ صعبة على رأسها أهمية تفعيل الموقف المسؤول والحساس تجاه معاناة المدنيين الحالمين بالسلام، لأنهم أولاً وأخيراً مع الاستقرار على نطاقٍ أوسع، بغض النظر عن التنازلات.


وفي السياق، من المهم أن نستوعب كيف صارت اليمن محطة تجاذباتٍ إقليمية وهي تتمزق الآن، فيما يستمر المجتمع الدولي في مماطلته ولا مبالاته بمختلف الفظائع الحربية المرتكبة من الجانبين، خصوصاً على المدنيين، ذلك أن المآسي الإنسانية والوطنية في أشد تعبيراتها اليوم. وإذا كانت الفاشية الانقلابية مغرورةً وغبيةً في تسويغ تطلعاتها الاستفرادية الآثمة، فإنه يمكن الخلوص إلى أن التدخل الخارجي الداعم للمقاومة، لن يستسيغ السلام إلا بمنظوره الذي لا يأبه بما تتعرض له اليمن من دمارٍ مؤسساتي وانهياراتٍ مجتمعية. ثم إن الانسداد السياسي سيظل يشكل البيئة الخصبة لمتواليات حالة العنف المفتوحة على مصراعيها دون أي ترشيد، وبالتأكيد تحتاج المقاومة الشعبية الوطنية إلى وثيقةٍ سياسية تصحح الأداء وتحدد الأهداف الجامعة، كما تفض الاشتباك بين سوءات الماضي والتباسات الحاضر وأحلام المستقبل.


وثيقةٌ تنعكس على الأرض، وتحدد الفارق الجوهري بين الانتقامات، وبين المشروع الوطني. فمن مكائد التاريخ أنه دائماً يتم استغلال وقوع أشياء لتبرير وقوع أشياء، كما لا يتوقف التاريخ هازئاً حتى من تناقضات التاريخ نفسه. وبمعنىً آخر: لا يمكن إلغاء التطرف الشيعي بتطرفٍ سني، ولا يمكن إلغاء التطرف السني بتطرفٍ شيعي. وحده الخطاب الوطني من يستطيع مكافحتهما معاً، والخطاب الوطني تحتمه المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية عاجلاً.


ثم إن كل من يرفض المواطنة المتساوية، ولا يريد أن يكون جزءاً من الكل، ويتحدث بمنطق أنه الكل وأنه فوق الشعب معززاً بوهم السلاح والقوة، وغايته نيل امتيازات واستحقاقات خاصة يزعمها؛ عليه أن يفهم جيداً أن اليمن قد تعبت فوق مستوى التصور من استمرارها كمزرعةٍ خاصةٍ لصالح مراكز هيمنةٍ ونفوذ.


مراكزُ هيمنةٍ ونفوذٍ عبثت بالماضي، وساهمت بقوة في تشكلٍ وانبثاق سوءات الحاضر كما تريدـ ويا للعجب، إنها تعبثُ بالمستقبل أيضاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +