نحنُ مستمرّون

نحنُ مستمرّون

قبل أحد عشر عامًا، في العام 2005 الذي حوّل فيه نظام الوصاية السوريّ وحلفاؤهُ لبنانَ والمنطقة إلى بؤرةٍ منفجرة، اعتقدَ أنّهُ من خلالِها يُمكنُ لهُ أن يُحكمَ قبضتهُ على أعناقِ الناس، ويُسكتَ الأصوات المناهضة لهُ، ويرهبَ نظيرتها التي يُمكنُ أن تحذو حذوها. في العام ذاك، وبعدَ اغتيال الكاتب والصّحفي جبران تويني، اجتمعت أسرةُ جريدةِ النهار منتظرة كلمةَ الرّاحل غسّان تويني بعد فقدِ نجله، فكانَ أن خرج الراحل بجملة واحدة كانت مانشيت الجريدة في اليوم التالي: «جبران لم يمُت... والنهار مستمرّة».


خمسُ سنواتٍ مرّت منذُ بدأ النظامُ نفسُهُ، بالأدواتِ نفسِها، والعقليّةِ نفسِها، حربَهُ ضدّ السوريين الذين آلت حالُهم إلى ما آلت عليه، قبل أن يخرجَ المُجتمعُ الدوليّ بصيغةِ هدنةٍ، فرضَ الموتُ والخرابُ العَمِيْمَين، وموقفُ المجتمعِ الدوليّ نفسهِ، على السوريين أن يرتضوها وقفًا للنزيفِ، ومحاولةً لالتقاطِ الأنفاسِ بعدَ أعوامٍ من النومِ مع القذائف في بيوتٍ واحدة.


ورغمَ أنّ النظامَ ومن يعاونهُ لم يلتزموا بالهدنة في كلّ مناطق الصراع، وظلّت مناطق كثيرة من جبال التركمان في الساحلِ السوريّ إلى مناطقَ وبلداتٍ في سهلِ حوران، رازحةً تحتَ سيلِ القذائفِ والصواريخ، إلّا أنّ ثمّة مناطق شملتها الهدنةُ بالفعل، مثل أجزاء من حلب، وداريّا وسواهما. وبالفعل، نامت هذه المناطقُ للمرّة الأولى منذُ سنواتٍ آمنةً نسبيّاً، وبعيدةً عن سيلِ وأصواتِ الانفجارات. وبدلَ أن يخرجَ ما تبقى من سكانِ هذه المناطق إلى نهارٍ يتيحُ لهم تفقّدَ خرابهم، وبدلَ أن يظهروا على شاشات التلفزيون يندبونَ خسائرهم، هاهم اليوم، يخرجونَ في مظاهراتٍ في مناطقهم، يرفعون شعاراتِ الثورة الأولى، ويعيدون الكرنفال إلى الساحةِ، رغمَ أنّهُ (أي الكرنفال) نقص أكثر من مليونِ ضحيّة، وسبعة ملايين مهجّر ونازح، ونقصَ مدنًا وحضاراتٍ وآثارًا بشريّة عتيقة. كلّ هذا النقص، لم يمنع خروجَ من بقي من السوريين الأحرار في مدنهم وبلداتهم، مُعيدينَ الطبول والرقصات الشعبية إلى الساحات، ومعيدينَ أعلامَ الثّورة بزهوّها الأول، وكأن لا خسارةَ حصلت ولا من يحزنون. أو، وكأنّ خسائرَ كثيرة حصلت حقّا، وكثرٌ يحزنون، ولكنّها الكرامة، ولكنّها الثورة!


قبل مظاهرات اليوم، كان ثمّة علائم تدلّ على ما يريدُهُ السوريون من الهدنة، هم الذين اتّهموا أنهم إرهابيون من النظام أولًا، ومن العالم ثانيًا، وهم الذين حُوّلَ اسمُ ثورتهم رغمًا عنهم إلى «أزمة» (ولم يكُن يُرادُ من التعريفِ الدقّة اللغوية التوصيفية، بقدرِ ما كانَ يُرادُ نزعُ اسم الثورة عمّا يجري)، هؤلاء الناس، عرفوا أنّ الهدنة فرصة لأن يعودوا إلى البدايات، إلى ما قبل أن يقلبهم العنفُ وتكالبُ المجتمع الدوليّ على حيواتهم، إلى مقاتلينَ بعضهم ينضوي تحتَ راياتٍ متشددة. البدايات التي تعني جملةً واحدةً: الشعب يريد إسقاط النّظام.


العلائمُ التي بدت إشاراتٍ لرغبة السوريين بالاستمرار والمقاومة، لا مقاومة الأسد وأعوانه فحسب، إنّما مقاومة الموت والخراب قبل أي شيء. كانت من مثلِ تلوين السيارات المنفجرة أو المدمّرة في بعض المناطق في محاولةٍ لاستثمار الخراب جماليّاً، فيما يُشبهُ ما فعلتهُ شعوبٌ كثيرةٌ قبلهم، مثلُ اللبنانيين الذين ما زالوا في بعض المناطق يزيّنونَ شرفاتِهم بورودٍ زرعوها في عبوات قذائف الحرب الأهلية.


ومن بينِ ما أتمّ المشهدَ قبل مظاهراتِ اليوم، صدورُ عدد جديدٍ من مجلّة حنطة، التي كان يرأس تحريرها الشهيد ناجي الجرف، والذي اغتالتهُ رصاصاتٌ ظلاميّةٌ مكتومة الصوت في تركيا قبل شهرين. العددُ الجديدُ من المجلّة كان مخصصًا للحديثِ عن الجرف، وكأنّ القائمين على «حنطة» وأصدقاء ناجي والثورة السورية، أرادوا أن يقولوا كلمتهم: نحنُ مستمرّون.


لو كانَ لي أن أتمنّى اليوم، بعيدًا عن الأمنية الدائمة بحريّة السوريين ومحاسبة قتلتهم، لكنتُ تمنّيتُ لو أنّ بإمكانِ الأحياء إيصالُ رسائل للموتى، كنّا سنقولُ لكلّ من رحلوا، ومن بينهم الراحل غسان تويني: نحنُ أيضًا مستمرّون... ويا محلاها الحرّية!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +