أشكال ألوان| رجال الدوّار

أشكال ألوان| رجال الدوّار

كيليس المدينة التي تنامُ باكراً، تُشعِرُك بالمنفى مرتين، حين تنام على ما تبقى من ذاكرةٍ لمدينتك القديمة، وشوارعها التي تسكنك، وحين تستيقظ باكراً مستعيناً ببعض كلمات للغةٍ أخرى، تحاولُ جاهداً أن تصل بها في رحلة بحثك الدائمة عن عمل يبقيك قيدَ العيش.


كلنا في هذه المدينة يبدأ صباحه بحلم يقظة، كأن يجد عملاً ليومٍ واحد بقطعة نقدية من فئة الـ50 ليرة، ويحلم أنه سيشتري لطفلته تفاحاً وكيساً كبيراً من البطاطا، ويشتري فحماً، فالحكومة التركية نسيت هذا العام أن توزع الفحم على غير عادتها.


يبدأ حساباته الصباحية وهو خارج من منزله، ويجد لنفسه مكاناً صغيراً في زحمة كل شيء، يجلس منتظراً، ثم ما تلبث أحلامه أن تتناقص، والقطعة النقدية التي زارته في الحلم تتلاشى، ويوغلُ في البقاء.


الطريقُ الصباحي الطويل من الكراج الذي تسكنُ فيه، بعد أن صار المشي عادة إجبارية للوصول إلى دوار مندريس، كان يحتاجُ لأغانٍ كثيرة تدندنها على الطريق، كي تختصر المسافة وتطرد ما يعتريك من خوف العودة بيدٍ فارغة: «ما الذي سيتبقى منك بعد أشهر، هذا السؤال الذي ألحّ عليَّ في الطريق».


أنا لا أنتمي إلى هذا المكان، قلتُ في نفسي، هناك انتماءات مؤقتة ضرورية لصناعة الخبز، فالعلاقة قوية بين أن تثور لتبني بلداً، وأن تنتمي لتحمي نفسك وقتَ الثورة.


وأطلَّ أحمد بخيت من ذاكرتي ليدندن بيت شعرٍ لا أعرف كيف علِقَ في ذاكرتي لأيامٍ كثيرة قادمة:


«لا أحملُ الزيتونَ.. في المنفى معي


وشراءُ زيتِ المُترفينَ.. مَذَلَّة».


وصلتُ إلى الدوار، آذار الماطر كان قد تواطأ مع المنفى في زيادة القهر الصباحي، لن تستطيع الجلوس بعيداً عن المطر، فالدوار مليءٌ بالسوريين الباحثين عن عمل، تراقبُ وجوههم التي اعتلاها الوجع، والدخان المتصاعد من أصابعهم، فقدان البقاء كان السمة المميزة للوجوه الميتة هناك، والأسنانُ الصفراء كانت كل ما يُنتَظر من ابتساماتهم الشاحبة.


جلستُ على حافة الدوار أراقب اللاشيء، وأتمتمُ بأدعيةٍ كانت أمي هناك تغرسها في قلوبنا الصغيرة. سيارةٌ وقفت على حافة الدوار، تدافعنا كلنا للحظة وهو ينظر إلينا من وراء النافذة، يتفحصُ وجوهنا، ويستلذُ ربما برائحة البشر المؤلمة.


يشيرُ إلى ثلاثة منا ليركبوا في السيارة، لا يسألونه عن العمل أو طبيعته أو أجرته، ولا يسألهم عن الأشياء التي يتقنون فعلها، نحن الجاهزون لكل شيء، نحن الذين نهزم اليأس كل صباح، ويقتلنا الزمن عند الظهيرة.


أحدهم خرج عن صمته ونحن ننتظر العمل الهارب أن يأتي إلينا، ضحكَ كثيراً قبل أن يبدأ قصته، ضحكته لملمت يأسناً فأصبحنا في شبه دائرة:


كنّا في لبنان قبل سنوات نجلس في ساحة مثل هذه الساحة، ومعنا شابٌ لا يزن ثلاثين كيلو غراماً، وقفت سيارة مرسيدس سوداء أمامنا.


«قلتُ لنفسي نحن دوماً نجيد الحلم ولا نحققه، قدرنا أن نبقى عمالاً وكأن حياتي الجديدة رُسمت أمامي».


فتاةٌ جميلة نزلت من السيارة وراحت تتفحص الوجوه: «أمري مدام، شو طلبك».


كلنا نجيد اللهجات، ونتعلم لغة العمل بسرعة، وننسى في الطريق اللغة التي أقصتنا عن وجودنا. لم تأبه الفتاة بكلامنا، فقط كانت تتلفت حولها حتى رأت ذلك الشاب النحيل الذي لا يزن أكثر من ثلاثين كيلوغراماً، نادته فركب معها في السيارة وغابت السيارة عنا. تساءلنا عن العمل الذي يقوم به مثل هذا الرجل، وتندرنا بذلك، وربما أفحشنا في القول.


بعد ساعة جاءت السيارة، وأنزلت الشاب أمامنا، مبتسماً نظر إلينا وهو يحمل أوراقاً نقدية بين يديه، 25 دولاراً.


تجمعنا حوله وطلبنا منه أن يحدثنا عن العمل، تردد ثم بدأ حديثه ضاحكاً: أخذتني، وفي الطريق سألتها عن العمل فلم تجبني، ولكنها قالت لي إنها ستعطيني 25 دولاراً, حين وصلنا إلى منزلها فتحت باب «الفيلا» التي تسكنها، وأوقفتني أمام الباب ثم نادت طفلتها بصوتٍ عالٍ. أتت بالطفلة إلي وقالت لها: «شوفي يا ماما، هيك بيصير فيه إللي ما بيشرب حليب».


ضحكَ رجال الدوار، ضحكوا بشدة وخفتُ أنا بشدة، قشعريرةٌ سرت في داخلي، ورحتُ أتفحص جسدي كي لا أكون.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +