أشكال ألوان| ضلعيَ المحتلّ

أشكال ألوان| ضلعيَ المحتلّ

الجولان التباسُ العلاقة بين الريح والتراب، شيءٌ من وخز المجاز أو أمومةٍ غاضبة للجغرافيا على ابنها-التاريخ. رغبةٌ سادية تستبد بالريح حين تطأ التراب وطئ التذاذٍ ونشوة، تلدُ الرغبة مولوداً تسميه الغبار، كمثل امرأة ودت من فرط ما رغبت أن تذرو حبيبها كرماد.


للجولان اسمان: الأول ساديةُ الريح والثاني مجازُ الأزل. ويمكنني أن أضيفَ فرح الطبيعة بذاتها. عند البحث في الاشتقاق اللغوي لكلمة جولان، نقعُ على هوةٍ بين الحقيقة والمجاز، حقيقةٌ تخاتل اللغة، محمولٌ ينقلب على الحامل، لغةٌ تورطت بذاتها وتورط معها المعنى. تتصلُ المفردة (الجولان) بأجوال، وتعني البلاد التي يعج فيها الغبار، يحدث ذلك في الحقيقة حين يتغير مزاج الفصول، فيطوح بنا الصيف في غياهب الخريف، يتغير اتجاه الريح ويصير لها وجه محاربٍ أشعث خرجَ الآن من الكهف.


هنا تكمنُ ورطة اللغة في علاقتها بالحقيقة حين تمنح اللغة ذاتها للنسبي، وتخلعُ على الحقيقة ما كان لها من الكُلّي، فليس الجولان في الحقيقة بلاد الغبار بل هو بقعة من أجمل البقاع السورية، تلك الهضبة التي أصلحت سوء الفهم بين السهل والجبل، تلك الطبيعة التي خرجت من ذاتها واستراحت في سرير موضوعيتها (التاريخ)، وفي تلك الصدفة الباذخة نبت ضلع جدي، وامتد سفح هويتي الأخضر على مساحة تقرب من 1860كم2.


بعد حرب حزيران من العام 1967 أقدمت إسرائيل على ضم 1260 كم2 من مساحة الجولان، أعادت منها 60 كم2 في إطار اتفاقية فكّ الاشتباك، هكذا صادرت إسرائيل ضلعَ جدي، وحين عاد سكان المناطق التي تمت إعادتها بعد اتفاق الهدنة في العام 1974، رفضت سلطات النظام السوري عودة الأهالي إلى قراهم الواقعة على امتداد شريط الهدنة، وهكذا بقي ضلع جدي سجيناً لدى السلطات، وصار الجولان جرحاً في خاصرة الهوية، وصار لهويتي ضلعها القاصر.


ثمة خطأ جسيم في القرارات الدولية التي طالبت إسرائيل بالعودة إلى ما قبل العام 1967، خطأ أصاب الماهية، فكرت أنه يجب على الأمم المتحدة أن تعيد صياغة تلك القرارات وفق اللغة التالية: على إسرائيل أن تعود إلى ما قبل الضلع الأول للهوية، لكنني عَدلتُ عن فكرتي لأنهم سيردون الدعوى بحجة عدم كفاية الجرح، كنت سأضمِّنُ دعواي ما كان من دموع الجدات التي تكفي لرد احتمال العطش عن بحيرةٍ بحجم طبريا، وما كان من صمت البغل، الصمت الذي دخل عقده الخامس وما تزال ذاكرة جدي الميت يقطر منها كرز الجولان.


يردُ اسم الجولان في العهد القديم، في كل من سفر التثنية وسفر يشوع، على أنه أحد مدن الملجأ الثلاث الواقعة على مصب نهر الأردن، مدن الملجأ هذه يلجأ إليها من أقدم على القتل الخطأ، وما أوسع الهوة بين أن يكون المكان ملاذاً للغرباء، وبين أن يكون المكان غريباً حتى عن أهله الغرباء. هذا المكان الذي خبأ آلاف السنين في كهف الذاكرة، وشيع أقواماً وحضارات، تركت أسماءها وانصرفت لتقول أنها مرّت من هنا ورحلت بكل ما حملت من الصخب.


من العموريين إلى الآرميين إلى الحثيين إلى الآشوريين والبيزنطيين، إلى العرب المسلمين، ولم تُغلق الدائرة بعد، حتى كليوباترا لم تشأ إلا أن تضوعَ ذاكرة المكان بشيء من عطرها. يحفظُ التاريخُ للجولانيين أنهم قاتلوا ببسالة، خلال كل الحضارات والممالك التي قامت على أرضهم، ضد الغزاة وعلى وجه التحديد تلك القبائل اليهودية الزاحفة من الجنوب، ففي اللحظة الآرامية وفي عهد الملك (حزائيل) وابنه (هدد) تحول الجولان إلى خط أول في مواجهة تلك القبائل. حين أعاد التاريخ نفسه في الثلث الأخير من القرن المنصرم، كان التاريخ ذاته أول المُنتَهَكين، وبعده انتُهكَ كبرياء الجغرافيا وتحوّل أهل الجولان إلى نازحين، لم يُعد لهم التاريخ ملكاً عربياً نبطياً اسمه عبادة، لكنه البغل الذي صمتَ طويلاً.


كأني بالتاريخ هنا يعيد طرح سؤال العلاقة بين الشعب ومن يفترض أنهم القادة، فثمة شكلٌ من العلاقة يحصن الجغرافيا ويحفظُ هيبة التاريخ، وثمة أخرُ يهدر دم الهوية. لكن الذاكرة السرية للشعب لا يمكن لها أن تنسى، فهي تمرر ذاتها من جيل إلى جيل. حين هبت رياح الثورة في سوريا، ووصلت إلى مناطق النازحين من أهالي الجولان، أذكرُ أنهم أسموا أحدى التنسيقيات باسم «أبناء الجولان المباع»، تلك كانت رسالة من عانوا من ظلمٍ مركب بوصفهم سوريين أولاً، وبوصفهم أبناء الجولان المسكوت عنه طيلة عقودٍ ثانياً. أبناء إحدى مدن الملجأ الثلاث وفقاً للعهد القديم، ما عاد لهم من ملاذ، من نزوحٍ إلى نزوح، كلما جدّ اغتراب أشعل ذاكرة حزنهم، ورددوا من تراث الجولان أغنية شعبية تقول: «بكرا بنعاود لا تبكي يا عيني».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +