أشكال ألوان| سوريا.. المهرجان «المخيف»

أشكال ألوان| سوريا.. المهرجان «المخيف»

ليس ثمة مكانٌ لمصطلح الثورة في التراث العربي الإسلامي، أعني ما تحمله كلمة ثورة من محمولٍ سياسيٍ اليوم. كان ثمة مصطلح الخروج فقط، الخروج على الحاكم، الذي اختلفت فيه آراء الفقهاء وفتاواهم، بين مجيزٍ لهذا الخروج حالَ ثبوت كفر الحاكم، ومجيزٍ له حالَ ثبوت ظلم الحاكم بصرف النظر عن كفره وإيمانه، ومنكرٍ له في كل الأحوال.


لعل أول استخدامٍ لمصطلح الثورة في الكتابات العربية، بوصفها فعلاً يقود إلى تحولٍ سياسي، كان في سياق كتابات عصر النهضة أواخر أيام السلطنة العثمانية، حيث دعا مثقفون عرب إلى الثورة على السلطنة العثمانية، مستعيرين المصطلح من الثقافة الغربية بعد ترجمته. ولعل أول فعل خروجٍ عربيٍ حمل هذا الاسم، كان الثورة العربية التي قادها الشريف حسين بالتحالف مع الانكليز ضد العثمانيين.


على أي حال، لمصطلح الثورة مفهومٌ مشوشٌ في السياق العربي الإسلامي، فهو لا يحمل معنى الخروج نفسه في التراث، وجرى تمييعه بالمقابل في الكتابات النظرية وفي الفعل على الأرض، من خلال إلصاق اسم الثورة بالانقلابات العسكرية، لإعطائها الشرعية التاريخية، ومن بينها «ثورة الثامن من آذار المجيدة».


جاءت الثورات العربية، وهي ثوراتٌ وخروجٌ وانتفاضاتٌ وتمرد، لترفع عن مصطلح الثورة الميوعة، ولتجعل له مكافئاً على الأرض. لم تعد الثورة «عربياً» في متون الكتب فقط، أو في بيانات الجنرالات قبيل استحواذهم على السلطة بالقوة، بل صارت هناك، حيث ينبغي لها أن تكون، في الساحات والشوارع والميادين، وجبهات القتال أيضاً.


في الاصطلاحات والتصنيفات، ثمة ثورات سلمية، وأخرى مسلحة، وكل حراكٍ شعبيٍ يسعى إلى قلب نظام حكمٍ هو ثورةٌ بلا جدال، سلمياً كان أم مسلحاً. لكن الثورة السورية كانت مثالاً مختلفاً، وأضافت إلى قاموس الثورات بُعداً جديداً، فقد كانت مزيجاً من الاثنين، خرج فيها الناس على الحاكم، وخرجوا إلى الشوارع والساحات، ثم حولوا خروجهم إلى مهرجانٍ مستمر، يحميه سلاح المتمردين.


عُرِفَت الثورات المسلحة بالمعارك والسيطرة على المدن والأحياء واقتحام معاقل السلطة بالقوة، وعُرِفَت الثورات السلمية بالمهرجانات الشعبية الحاشدة والهتافات والاعتصامات، التي تتسبب بوقف الحياة الاقتصادية والسياسية مما يجبر الفئة الحاكمة على التنازل عن سلطتها، وعُرفت الثورة السورية بالاثنين معاً.


مزيجٌ من الكفاح السلمي المجيد، والقتال الشجاع، هو ما قدمته الثورة السورية، صانعةً في المساحات المحمية بالسلاح، كرنفالاتٍ راقصةً مليئة بالبهجة والتحدي، لكنها كرنفالاتٌ مخيفةٌ أيضاً، لأنها محفوفةٌ بالموت والغارات والقذائف، والدماء، الكثير من الدماء.


لكن ما هو المعنى المضاف فعلاً؟ أعني المعنى الذي أضافه الاحتجاج السلمي المهرجاني المحمي بالسلاح طيلة عامٍ ونصف، طيلة عام 2012 وحتى منتصف 2013، حين توقف التظاهر تقريباً.


المعنى هو حق الناس في أن تفعل وتقول في الشارع، وهكذا لم يعد إسقاط النظام هو الغاية في جوهر المسألة وعمقها، بل إن إسقاطه ليُتاح للناس أن تصنع حياتها وتقول كلمتها هو القضية كلها، ولو لزم ذلك الدفاع عن الساحات العامة بالسلاح. من حقنا أن نخرج على الحاكم في الفضاء العام، في العلن، في الهواء الطلق، وهذا الحق هو ما دافع عنه مسلحوا الثورة السورية واقعاً طيلة عامٍ ونصف، سواء كان هذا الدفاعُ هدفاً لهؤلاء الثائرين المسلحين جميعاً أم لا.


المعنى المضاف اليوم أيضاً، في الذكرى الخامسة لقيامة الثورة السورية. أن التظاهر الذي اختفى تحت وقع المعارك وظهور تنظيم الدولة الإسلامية والخذلان الدولي بعد المذبحة الكيماوية، معلناً العودة إلى الافتراق بين الثورتين السلمية والمسلحة، قد عاد إلى الشوارع والساحات، محمياً أيضاً بالسلاح.


لم تمت الفكرة إذن، بل عادت المهرجانات «المخيفة» المحمية بالسلاح، وكأن أرواح المتظاهرين الأوائل وحُماتِهم من المسلحين، تطوف فوق المدن والحواضر المدمرة والمنكوبة، وتعلن أن الساحات والشوارع المدمرة ملكٌ لساكنيها، يتمردون فيها على الحاكم أياً كان، وعلى سلطات الأمر الواقع أيضاً، وأن خروجهم السلمي هذا حقٌ ينبغي أن يُحمى، بالسلاح إن لزم الأمر.


ثورةٌ أم خروجٌ أم تمردٌ أم مجرد فوضى، أياً يكن رأي الكتب والأكاديميات فيما يجري، وأياً تكن مآلات ونتائج الخروج السوري المهرجاني المخيف، فإن المتظاهرين السوريين يصنعون المعنى بأجسادهم وعلى إسفلت شوارعهم وساحاتهم، يصنعون المعنى غير عابئين بالكتابات النظرية، ومنها هذه الكتابة أيضاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +