أشكال ألوان| شهود العيان

أشكال ألوان| شهود العيان

في بداية المظاهرات في درعا المدينة وإمتدادها إلى حوران، ووصول صداها إلى دوما وحمص وبانياس واللاذقية، جرى اعتماد مصطلحاتٍ متنوعة لوصف ما يجري، تراوحت بين: الحراك، الانتفاضة، الاحتجاجات الشعبية، والثورة بطبيعة الحال.


كان البعض يحاجج أكاديمياً أنها لم ترتق إلى مستوى الثورة بعد، ولكن كلمة «ثورة» كانت الأحب إلى قلوب السوريين الراغبين بالخلاص من الحكم السلالي. وحين كانت عبارةٌ مناهضةٌ للنظام على فيسبوك تُعتبر ثورةً، فكيف بالنزول إلى الشارع وتحدّي هذا النظام علناً؟


وقد تطورت الأمور لاحقاً الى مشاهد ما كان العقل ليتخيلها، فمن تمزيق صور حافظ الأسد وإسقاط تماثيله، إلى مسيراتٍ تملأ ساحة العاصي، بكل ما تحمله حماة من رمزية في الضمير السوري. ومنَعَ النظام المراسلين الصحفيين من تغطية الأحداث، ونُقل عن بشار الأسد قوله: إن المشكلة ليست مع من يتظاهر، بل مع من يصوّر المظاهرة!


حينها لجأت الفضائيات المواكبة للحدث، لما عُرف بشهود العيان، كتعويضٍ عن غياب المراسلين. ولم يكن كذب بعض الشهود خافياً، وبعضهم لم يكن أصلاً متواجداً في سوريا، مما أفسحَ المجال أمام آلة النظام الإعلامية للبناء على هذا الخلل، وإنتاج قصص مفبركة تضخها في إعلام الثورة، لبيان عدم صحتها لاحقاً، في محاولة لتكذيب ما يحصل، وقلبِ الصورة.


وكان النظام قبلها قد رفع الحظر عن الفيسبوك، وتأسس الجيش السوري الألكتروني بقدراتٍ إحترافية، وخطة عمل ممنهجة، وبدأ تسيير المسيرات المؤيدة، لصنع معادلة «شارع مقابل شارع».


لكن كل هذا لم ينفع في إحتواء الشارع، ووقفِ المظاهرات، بل تنامت نقاط التظاهر، وتوسعت أفقياً لتشمل جميع المحافظات وإن بنسبٍ متفاوتة.


قبل الثورة، كنا كشباب، شهودَ عيانٍ جماعيين على انعدام الفرص، واستئثار شبكات قرابةٍ ومصالح، بها بالكامل. كنّا كطلّابٍ شهودَ عيانٍ على انهيار المنظومة التعليمية، ومدى خوائها وفساد القائمين عليها، وكنا كموظفين، شهودَ عيانٍ على النهب والهدر العلني واليومي، وكمواطنين، شهوداً على الخوف من الكلمة، وغياب أبسط مقومات الكرامة والحقوق.


وبقينا بعد الثورة نشهدُ بكل ما كنّا نعرفه ونخاف التفكير فيه، فما منعَ السوريين لعقودٍ عن الثورة، لم يكن الرضا بل الخوف، الخوف من كل ما قد يحدث معهم لاحقاً بأدق تفاصيله، وكانوا موقنين بفداحة الثمن، إلى أن وقعت الواقعة، واشتعلت الشرارة، فصرنا شهودَ عيانٍ على مرحلةٍ جديدة بدأت للتو.


لم نكن بحاجة لنكون في مظاهرة لنصدق أن الأمن أطلقَ النار عليها، ولا في سجنٍ لنصدق أن التعذيب ممنهجٌ ووحشيٌ ويقتل مواطنين دون مساءلة، ولا في غرف عمليات سرية، لنصدق أن أجهزةً رسمية تخطط لإثارة فتنٍ طائفية، وتحريض مكونات الشعب السوري ضد بعضها. كنا نعرف كل هذا بالسليقة، بغريزة البقاء التي يحتاجها أي مخلوق، للبقاء حيّاً في وسط مليءٍ بالأعداء الحيويين.


رفاقٌ وأحبّة كانوا في مظاهرات وتعرضوا للرصاص، والاعتقال والتعذيب. وجوهٌ مألوفة، ذات حضورٍ حميمي، نعرفها ضاحكة ورأيناها في صور مسربة، على جبينها رقم، وملامحها باهتة، فكنّا أيضاً شهودَ عيّانٍ على حياتهم وموتهم.


خمس سنوات من شهادتنا العيان، كانت كافيةً لنقول، نعم، إعلام الثورة يكذب، وشرورٌ لا تعد ولا تحصى دخلت البيت الثوري من باب الثورة، ولكن النظام السوري لم يكن الراعي الكذاب، الذي كان يحذر قومه من الذئب زوراً، حتى عندما  أتى الذئب لم يصدقه أحد. لا بل كان هذا النظام في أعيننا هو الذئب نفسه، وكنّا قد قررنا قبل خمس سنوات، أننا لم نعد نريد أن نظل خرافاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +