أشكال ألوان| إلى محمد بشير عرب*

أشكال ألوان| إلى محمد بشير عرب*

إنه آذار، اليوم هي ذكرى انطلاقة الثورة يا أبا بشير. يفاجئك أنه أضحى للثورة ذكرى سنويةٌ أيضاً، وهي الخامسة اليوم. أنت لم تشهد الذكرى الأولى، ولم تَخض نقاشاً محتدماً حول تواريخ 15 و 18 آذار.
أعرف جيداً، عند عودتك سوف تنظر إلى الجميع وتسأل من فورك مبتسماً: كل شي تمام؟
حسناً. لأكون واضحاً، لا شيء يسير على ما يرام هنا. تغيرت البلاد كثيراً مذ اختفيت، كل شيء في سوريا يمعن في الكثرة، إلا سوريا نفسها. الموتى يموتون أكثر، الهاربون يهربون أكثر، المجرمون يقتلون أكثر، اللاجئون أكثر، المعتقلون، المخطوفون، المشردون...  وحدها سوريا تصبح أقل.
حلب أصبحت حلبين. نتشارك، أنت وأنا على حدٍ سواء، بأن أحداً منّا لا يعرف أياً من هاتين الحلبين. حلب التي نعرف ماتت يا محمد، حتى أن أحداً لم يشيعها. لا تزال جثتها مرمية هناك، بين القلعة ودوار السبع بحرات، لتتفسخ وحدها. لم يبقَ أحدٌ في الأنحاء ليكفنها ويمشي في جنازتها. لقد غادر الجميع المكان، ماتوا، أو اعتقلوا، أو نزحوا، أو أنهم يقبعون في كامبات بعيدة في شمال وغرب أوربا. «لا وقت في هذه العجالة لأحدثك عن البلم، والنَفَر، والإقامة، ولم الشمل، وبصمة هنغاريا».
الأصدقاء أيضاً، بعضهم مات وحده. آخرون قتلوا مع أولادهم، البعض دُفِن تحت ركام بيته، وهناك من مات تحت التعذيب، هاجر الباقون إلى منافي قريبة وأخرى بعيدة.
البيوت أيضاً ماتت، سرقها من تيسر له ذلك على مراحل، ثم قطّعَت أحشاءها القذائف وأمطار البراميل، «لا هذا ليس خطأً في الطباعة، سوف أحدثك في وقت لاحق كيف تهطل البراميل من السماء».
الجامعة أيضاً، جامعتنا. هذه ماتت بدورها، قصفتها الطائرات الحربية في نهارٍ مشمس. هناك بعض الطلاب اليوم، هؤلاء كانوا أطفالاً حين ذهبت أنت ولم تعد. لا يعلمون عنك شيئاً، ولم يسمعوا باسمك يوماً.
أصبح لدينا خليفة للمسلمين في الرقة، لديه رعايا من الألمان والفرنسيين والهولنديين والبريطانيين وغيرهم. الرقاويون الشوايا على وشك أن يصبحوا تراثاً في مدينتهم، تماماً كما الهنود الحمر في أميركا الشمالية. بشار الأسد لا زال في دمشق، احتفل منذ أسابيع بتفوق ابنه حافظ بشار حافظ الأسد في مادة الرياضيات. لديه هو أيضاً لبنانيون وعراقيون وأفغان وإيرانيون يقاتلون من أجله على الأرض، ويساعده طيارون روس في السماء. روسيا تقصف البلاد من البحر الأسود أيضاً، وهناك طائرات حربية لأكثر من عشرين دولة عظمى في الأجواء، لا أحد يعلم على وجه التحديد ما الذي تفعله هناك.


لا أحد يعلم شيئاً عنك أو عن مكانك أو موعد عودتك، قمنا بتجميع بياناتك، هي مدرجةٌ على قوائم تروح وتجيء بين وفودٍ ببزاتٍ رسمية أنيقة. وصلتنا أيضاً صورٌ لآلاف من الموتى في السجون، صورُ أجسامٍ هزيلة ملقاة على الأرض كيفما اتفق. مرقمة ومؤرشفة ومصدّقة في الديوان حسب الأصول. بحثنا عنك جيداً هناك، لم نجدك، هل نفرح؟


نحن لا نحيا تماماً، لكننا نعيش. لا زلنا نستمعُ للأغاني ونشاهد كرة القدم ونحتفل بأعياد ميلاد أطفالنا ونكتب رسائل ضاحكة للأصدقاء، ننام ونستيقظ ونسافر ونفكر في المستقبل. لا شيء يتوقف عن النمو يا أبو بشير، حتى خجلنا من النظر إلى عينيك في الصورة.


سوف أبقيك على اطلاعٍ بكل جديد بين الحين والآخر.
بانتظار لقاء قريب
صديقك.. حسام القطلبي
_______________________________________________________________


* محمد بشير عرب طبيب وناشط سلمي سوري، اعتقلته الأجهزة الأمنية في مدينة حلب يوم 2 تشرين الثاني 2011. تسربت أخبار قليلة عنه خلال السنة الأولى من اعتقاله، ثم اختفت أخباره تماماً بعد ذلك، وحتى اليوم.


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +