أشكال ألوان| الثورة السورية.. «نحن نريد»

أشكال ألوان| الثورة السورية.. «نحن نريد»

ولدت الثورة السورية بلا دنس، يتيمةً لا أب لها، من أمٍّ احتُسِبت عاقراً لعقود، لتُكتَشف خصوبتها في أول موعدٍ مع ضرورةٍ سبقت الوعي، تحددت بالـ«أين» والمكان ولم تعرف الكيف والحال، هكذا كانت متفردة وحيدة، لا تشبه شيئاً ولا يشبهها حدث.


حين خرج الناس إلى الشوارع يملؤون الساحات، لم يكن لديهم فكرة عما سيحدث تالياً، كالوليد بدأوا يحسون بذاتهم قبل وعيهم بها، كانوا يهتفون ويغنون ويرسمون في عقولهم صور الأمنيات، وفجأة كمن اكتشف صوته وخياله للمرة الأولى، راح يراقب الصدى والخيالات تمورُ في فضاءٍ اقتحمه وحيداً، مأخوذاً بسحر الحلم والأغنية، مفتوناً بما حصل في مصر وتونس.


هي الثورة إذن، دون مقاييس ولا نظريات أو لوائح، كانت رفضاً للسائد ونقضاً للتأبيد، ثورة تمثل إرادة شعب أحس بأهمية أن يكون، وتفقَّد كرامته فوجدها في القلب والروح مكنوزةً في وحدة وجود، فأمسك بها وأحاطها بكيانه.


الواقع لم يكن كطهارة الحلم، منظومة الاستبداد كانت مستعدة، واجهت الحشود العزلاء بالرصاص الحي دون إنذار ودون تبرير، سوى كونها سابقةً أولى واختباراً لإمكانية التنفيذ في القادم من الأيام. وسالت الدماء وارتفعت النعوش، لم يعترف النظام بارتكابه تلك الجرائم ناسباً إياها لعملاء مندسين هدفهم التخريب والإرهاب، وكان ذلك تهيئةً وتقديماً للتدخل الخارجي الذي راح يخطط بدهاءٍ وخبثٍ لسرقة الثورة وحرفها عن أهدافها، فوضعت قوى التدخل نفسها في مقدمة الحراك آخذة إياه حيث تريد بعيداً عن مساره وغايته، إلى السلاح والطائفية والإفساد بالمال الوسخ، تلك هي ميادين النظام التي يخبَرُها ويجيد إدارتها، وإلا كيف كان له أن ينتقل من خوف الاعتراف بطلقة مسدس على متظاهرين، إلى استخدامه الطائرات والبراميل المتفجرة والصواريخ والغاز السام على المدنيين في بيوتهم ومزارعهم؟


سنواتٌ خمسٌ طوالٌ من العنف والقتل والتهجير وقصف القرى وتهديم المدن وتعميم السلاح والعنف وشرعنته، وإدخال ميلشيات المذاهب وتمكين التنظيمات المتطرفة وإطلاق يدها في النهب والقتل والإرهاب. ومع الدعم الإيراني المطلق، إلا أن النظام فقد سيطرته على ثلثي البلاد، وبات مهدداً بالانهيار لولا التدخل العسكري الروسي المباشر، الذي عمل على ترسيم نفوذه كمحتلٍ يفرض إرادته بقوة السلاح للمحافظة على حليفٍ ضعيفٍ لم يعد قادراً على اتخاذ أي قرار.


جاء صدور قرار مجلس الأمن 2254 تعبيراً عن قناعة الأمريكان أن الوقت قد حان لإطلاق عملية سياسية، يتحكمون بنتائجها ويفرضون تفاصيلها على الجميع، لاعتبارهم أن الثورة وما تمثله قد ذهبت وانتهت إلى مجموعات ضعيفة مرتبطة ومستعدة للخضوع للإملاءات.


كان ذلك بمثابة نعيٍ دوليٍ للثورة، وقرارٍ بإخراج السوريين نهائياً من قضيتهم والتعامل معها كمسألة مصالح ونفوذ دوليين، دون اعتبارٍ حتى لمصالح القوى الإقليمية الفاعلة في مسار الحدث منذ البداية.


اتفقَ الأمريكان والروس على إعلان هدنة تتوقف بموجبها الأعمال العدائية كتنفيذٍ للبند الأول من قرار مجلس الأمن، وتم إبلاغ الأطراف المتقاتلة للالتزام بالهدنة التي كانت تبدو ضرباً من المستحيل بالنظر للواقع الميداني والسياسي، إلا أن التلويح بخيارات أخرى في حال الرفض نجحَ في فرضها على جميع الأطراف.
أمضى السوريون يومهم الأول يترقبون، وما أن عرفوا أن لا براميل فوقهم حتى حملوا يافطاتهم وأعلامهم وخرجوا يملؤون الشوارع والساحات، تشد أزرهم خبرة سنواتٍ خمس، كانت أكثر من كافية لتصليب عود ثورة لم تعد يتيمة، فالأيتام قد كبروا وتمرسوا بالثورة فتياناً وتعرفوا لئام الموائد جيداً، واشتد ساعدهم بوعي مصلحتهم، في عودةٍ تعلن للجميع أنها ثورتهم وهي مستمرة، ولن تتوقف حتى التغيير الكامل.
استنتاجاتٌ كثيرةٌ وهامة يمكن استخلاصها من دروس الثورة ومآلاتها حتى الآن، يتضحُ أن ما يجري في سورية هو ثورةٌ كسرت الضوابط، وخرقت النواميس وهدمت ركائز الاستبداد، ولم تكن مجرد حريقٍ مضادٍ مفتعلٍ ليوقف حريقاً قبله امتد يهدد المنطقة، وسيتضح لاحقاً أن هذه الثورة السورية هي في القلب والمركز من أحداث المنطقة برمتها.


ألغت الثورة فكرة الوحدانية والتسلط، وهدمت وإلى الأبد أقنوم القائد الملهم الواحد الخالد، وأظهرت أن الحرية تبدأ من الفرد الحر وإرادته الحرة.
هي ثورةٌ شعبية لم تخرج من بطون الكتب والنظريات، لم تحدّها برامج وأحزاب ورؤى أحادية، ولدت ونمت وكبرت وتوالدت بفعلها الذاتي وإرادتها الحرة، طريقها طويلةٌ وعسيرة، لكنها سيرورةٌ دائمة وتحولٌ مستمر لا يمكنه التوقف، وهي غير قابلة للسرقة أو المصادرة والتحريف والاحتواء، فهي ليست حركة جياع أو محرومين يمكن شراءهم بالمال، بل هي ثورة سيادة الكرامة في وجه طغيان استلبها، يقودها وعي جمعي تاريخي مسؤول.


هي كينونة جمعية جامعة مؤلفة، ليست من أو لطائفة أو مذهب أوإثنية دينية أو قومية، طابعها إنسانيٌ تحرري، ومآلها اجتماعٌ مدنيٌ سياسيٌ تاريخي عابر للفئوية والعصبويات.
وأظن أخيراً أنها كما كانت مركز استقطاب وجذب للتدخلات، سيكون تأثير ارتداداتها أبعد بكثير من جغرافيتها المحددة، وستكون دروسها من أهم المراجع للمؤرخين والدارسين لحركة المجتمعات في المستقبل.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +