أشكال ألوان| الشعب يريد

أشكال ألوان| الشعب يريد

حين وقفتُ أمام المرآة هذه المرة, وكنتُ قد نسيتُ منذ ثلاث سنين أن أقف عندها، وجدتُ أن هناك أشياء كثيرة عليّ فعلها هذا الصباح، فالصوت يدعوني على عجلٍ بعد رحلة الصمت الطويلة الأخيرة.


بحثتُ في بيتي عن آلة حلاقة ربما أكون قد نسيتها ذات يوم, نظفتُ أسناني، سرحتُ شعري أو ما تبقى منه, ارتديتُ ثياباً تليق بالصوت القادم من هناك، ابتسمتُ لصورتي المعكوسة في المرآة, وشعرتُ أن كلتا يدي يدٌ يسرى.


سألتُ نفسي بصوت عالٍ: «هل يستطيعُ المنفى أن يجعل الإنسان قصيراً، ويحتاجُ إلى حذاءٍ بكعبٍ عالٍ، كي لا تلتصق الدماء بكعبيه».


أمام المرآة بدا وجهي غبيّاً, وأنا أصرخُ بتلك الجملة القديمة, تركتُ لنفسي حرية الحركة، وتداخلت وجوهٌ كثيرة في المرآة تزاحمني عني, وجوهٌ لأشخاصٍ كنت قد نسيتهم في ممرات الحياة الضيقة.


بيسراي اقتربتُ لألمسَ وجوههم، قلت: «ليس هناك عمر للشهداء».


بشكلٍ جانبي وقفت، ثم استدرت إلى الجمهور في افتراضية الزمان والمكان، وأمام بقعة الضوء الوحيدة.


هل حدث يوماً أن كتبتَ ثورةً، كتبتها ولم تكتب عنها, إذن لا بد لك قبل ذلك أن تكون مصاباً بها، كما تصاب بالبرد بعد يومٍ ماطر. أو بالحب عندما تلتقي فتاةً بكامل عطرها وأناقتها، لا أن تأتيك كنوبة صداعٍ واختلاج. أن تجد أفكارها تحت جلدك غير آبهٍ بجلال المواقف أو قطعان الجراد، أو أن يلوث أحدٌ شذاها بحذاءٍ مليءٍ بالوحل.


الثورة أن تنظر إلى الأزهار، لا كأكاليل على المقابر، بل براعمَ في حديقة، وبناءً بروحٍ ساطعة، لا بظهرٍ مقوس وروحٍ  شائخة. الثورة هي أن لا تشعر بأن الموت يبدل الصورة، ويغير المفاهيم.


هي عندما يصبح الموت فرصتك الأخيرة لكتابة قصيدة تعلن فيها سعادتك للنور، وتتمادى في فرحك، ذلك أن المشهد لن يتكرر ثانيةً.


الثورة هي أن لا تلجأ للصمت/للعزلة، كي لا يلغيكَ النسيان ويملأ المنافقون والمصفقون صالة المكان. الثورة هي أن تنظر إليَّ كبشرٍ لا كقرادةٍ تنتظر الريح أن تحمل لها دماء حيوانٍ ما، لتخرج عن صمتها البارد وتنهش، ثم تغلف جسدها الصغير وتوحي بموتها من جديد.


هل سبق لك أن كتبتَ ثورةً؟


الصوت صار قريباً وبدأ يأخذ ملامحه, وبدا كطوفانٍ يخرج من المرآة، أزاح عني صوت الرصاص والقنابل, وصوت سيارة الحسبة, والوجوه الغريبة، والكلام بالفصحى, والألوان السوداء, والعلامات الفارقة, ونظرات الانتقاص.


«الشعب يريد»


خرجتُ إلى الشرفة، نسيتُ كل الكلمات الغبية التي تفاصحتُ بها أمام المرآة, سمحتُ للهواء أن يمر في رئتي من جديد, صرختُ.


قدماي ما عادتا تحملاني, لم أكن يوماً سياسياً, أنا رجل مسرحٍ صغير لا أفهم ما الذي حصل في تلك اللحظة، ولكنني هدأت وكأن قلبي وقع في جيبي الأيسر.     مدينتي تشبهني  يا سادة، دائماً تقرأ رسائلها، تهدي  ياسمينها  وزهر ليمونها للعابرين، تعتقل عشاقها بالحنين والذاكرة، تساهرهم على أرصفة الطرقات القديمة، تغني معهم.


بين حجارتها عبق الناس وحكاياتهم، عرقهم وحبهم، لا تغلق أبوابها. مشرعةٌ للريح، محميةٌ بجبالها وقهوتها ونسائها ومسرحها.


مدينتي لا تقتلُ المفردات ولا تمضي مسرعة أمام معانيها، مدينتي لا تهربُ من الشعر ولا تخفي وجهها بيديها، مدينتي فيها متسعٌ لفنجاني قهوة وطاولةٍ صغيرة وكرسيين من الخيزران.


مدينتي تكره الأقنعة والوضوح، غامضةٌ بسحر التعويذات والأحجبة وجلسات المولوية، والفول المرصوف على الطرقات.


مدينتي تتنفس بحرية وتغني بحرية وتحب بحرية وتمسك بأيدينا بحرية وتتعطر بحرية، مدينتي لا تنام قبل أن نهدأ ولا تُجيد الانتظار، ولا تسأمنا ولا تخافنا. مدينتي لا تبتدئ بمكانٍ ولا تنتهي لحدود, مدينتي مزيج من اللاوعي والجنون.


البروليتاريا والألم، الهزائم والانتصارات.


مدينتي تسمحُ لنا بالعادي في أيامنا، وتسمحُ لنا بالتزخرف كفسيفساء النشيد والعلم،


مدينتي اليوم لن تجبرنا يوماً على الرحيل والنوم باكراً والاستيقاظ أول الشمس والبكاء إجهاشاً والصراخ ألماً والوقوف بذهولٍ أمام ما لا نفهمه ولن نفهمه.


لماذا تعودُ الطيور المهاجرة إلى أعشاشها القديمة تحوم حولها؟ تقفُ على ما تبقى من أعواد القش والطين، ثم تبني لها بيتاً جديداً تختاره بعناية كي يشبه الذاكرة.


حملت هويتي ورميتها من الشرفة, كان الصوت هويتي الجديدة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +