أشكال ألوان| الأوّلة... درعا

أشكال ألوان| الأوّلة... درعا

سألني محقق دائرة الهجرة يومها، في الثلاثين من نيسان قبل ثلاث سنوات عن اسمي: اسمُكَ الكامل؟
– تمّام هنيدي
لا تعني الأسماءُ كثيرًا الآن. قلتُ في نفسي، وأنا أراقبُ حركة يديه على كيبورد الكومبيوتر، وانكبابَهُ على عملهِ، حيثُ لا يستطيعُ حتّى تبيّنَ موسيقى الأسماء العربية، ولا يعنيه كثيرًا ذلك على الأرجح.
بقيتُ أردُّ على أسئلة المحقق باقتضاب وبلا شرحٍ مستفيض، وطوالَ الوقتِ، أنتظرُ انتهاءَ المقابلة الممضة التي يتعيّنُ على المرء خلالها أن يكونَ لطيفًا ودقيقًا وحذرًا كما لو أنّهُ في تحقيقٍ أمنيّ خطير. استمرّت الحالُ على ما هيَ عليه، إلى أن جاءني السؤالُ المُنتظر:
من أينَ أنت؟
كأنما كنتُ على موعدٍ مع ما يتيحُ لي الحديث، ما يجعلُني أرفعُ رأسي قليلًا، وأهتمّ بطبقة صوتي، وجلستي، كأنني على موعدٍ في تلك اللحظة مع إثباتِ موجوديّتي، قلتُ لهُ: أنا من جنوب سوريا. قريةٌ صغيرة على أقصى الحدود الغربية لمدينة السويداء. ولمّا لم يعرف المحقق المنطقة (كما كان متوقعاً طبعًا)، شعرتُ بإلإهانةِ، وهنا كانت اللحظة التي وضعتُ فيها الجوكر على الطاولة:
قريتي على حدود قرى درعا، المدينة التي بدأت فيها الثورة السورية. وسقط فيها أوائل الشهداء.
قلتُ جملتي ولم أتساءل ما إذا كانَ سيعرفُ درعا أم لا، أنا قويُّ الآن، لم يعد يعنيني الشرح كثيرًا، يكفي أن أقول: أنا جارُ درعا. وإذا أرادَ فليبحث.
مؤسفٌ جدًا أنّ المحقق حتى لو أرادَ أن يعود في بحثه إلى مراجع إلكترونية، فإنهُ سيتوصّلُ لمعلوماتٍ كثيرة جغرافيًا أو ثوريًّا عن المدينة. أي أنهُ لن يتمكّنَ من موافاة المعلومات التي تسردُ أحداثًاً منها ما قبل الثورة، فالمدينةُ التي يظنُّ البعضُ أنّها اكتسبت أهميتها من ثورتها وحسب (والحقّ أنها اكتسبت رمزيّتها خلال الثورة)، لن يعرفَ المحقق الذي يسعى لاقتصاص إجاباتٍ مني حيال أسئلتهِ عن الأقليات وأوضاعهم، أنّ عظمتها اكتسبتها منذ زمنٍ بعيدٍ، وأنها لطالما أفرزت شخصيّاتٍ على قدر المسؤولية التاريخية.
فهناكَ فعلًا تعرفُ كيف يكونُ المرءُ شهمًا، صبورًا حتّى المكابرة، نعم وحكيمًا أيضًا.
درعا الثائرة نفسها، كانت قديمًا أمًّا «لأبي حوران» محمّد خير الحريري، الزعيم الذي دخلت سيدةٌ مكلومةٌ فاقدة لابنِها في حادثِ سير مجلِسهُ ولم تكن تعرفه، وصرخت بالحاضرينَ: مين منكم أبو حوران؟! ولما رآها قال لها: وصلتِ.. تفضّلي يابا.
فقالت لهُ بألمِ الثكالى: والله لألعن كلّ شعرة شايبة بلحيتك! فما كان منه إلّا أن وقفَ وقال لها: حقّك يابا… الله يصبّرك.
وهل لأبي حورانَ ألّا يكونَ حكيمًا متسامحًا؟!
درعا التي لا يعرفها المحقق، يكتسبُ أبناؤها قيمتهم من اهتمامهم بالعمل، العمل الذي يعتبرُ مقدّسًا هناك، هناكَ تعرفُ كيفَ يصيرُ الرجالُ رجالًأ حقيقيين، والنساءُ نساءً حقيقيات.
سأضيفُ للمحقّقِ لو أعيدَ التحقيقُ معي الآن، أنّ أبي زارَ محمد خير الحريري نفسه الذي تحدّثتُ عنهُ قبل قليل، في مجلسهِ في حوران، بعدَ أن أرسلهُ جدي ليحاولَ مع آخرينَ إصلاحَ ذات البين بين حوران والسويداء في سبعينات القرن الماضي، عقب الخلاف الذي امتدّ بين المدينتين لعقود، وحينَ عرّفهُ أبي بنفسهِ، وقال لهُ هدفَ زيارته، قال له «أبو حوران»: سلّم على والدِك، وقل لهُ إنّهُ قادرٌ على جرّي بخيطِ قطن.
في إشارةٍ رمزية إلى موافقته على أن يكونَ طرفًا في أيّ صلحٍ بلا عناء يذكر.
سأخبرُ المحقق أنّ أهلَ درعا النبلاء، الأعزاء الذين ضحّوا بكلّ شيء في سبيلِ كرامتهم، يعرفونَ الأصولَ لو أرادَ العالمُ كلّهُ، كلّهُ بلا استثناءٍ، أن يلتفت لهم ويوفّرَ دمَاءهم ويوقفَ إراقتها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +