أشكال ألوان| الرقة، تَدمُر، وسوريا

أشكال ألوان| الرقة، تَدمُر، وسوريا

ثارت الرقة على نظام الأسد بعد نحو عامٍ على قيام الثورة السورية، ثم تحررت من نظام الأسد، ثم فشلت الثورة والمعارضة السورية وفصائلها ومؤسساتها في الدفاع عنها وإدارة حياة الناس فيها، ثم تخلى عنها العالم ليسيطرَ عليها تنظيم الدولة الإسلامية ويعلنها عاصمةً لخلافته، ثم جاء التحالف الدولي وتبعته روسيا، وها هي المدينة تُقصفُ اليوم بلا أي رحمة.


هذه سيرة الرقة في أربع سنوات، منذ استشهد علي البابنسي برصاص أجهزة الأسد الأمنية، وتَبِعَهُ أربعون من شباب المدينة في تشييعه. لكنها ليست سيرة الرقة وحدها، بل هي سيرة البلاد كلها، بشكلٍ أو بآخر، بل لعلها سيرة هذا العالم التعس كله. هي اليوم سيرة تَدمُر أيضاً على وجه الخصوص، والمدينة تُقصَفُ في هذه اللحظات بمختلف صنوف الأسلحة من الجو والبر.


فيما كنا جميعاً نحتفلُ بعودة المظاهرات إلى ساحات الثورة السورية، وفيما كنا منشغلين بتحليل أسباب انسحاب جزءٍ من القوات الروسية، ومحاولة توقّع مآلات جنيف ومفاوضاتها، قَصَفَت الطائرات الروسية مدينة الرقة فقتلت أكثر من ستين شخصاً فيها السبت الماضي، في شارع المنصور، شارع تل أبيض، منطقة الصناعة، حي الثكنة، حي الفردوس، المشفى الوطني، وغيرها.


تَدمُر أيضاً، ليس ثمة من يرثيها اليوم، وإذا كان رثاء غيرها من حواضر سوريا وأريافها لم يُجدِ كثيراً من النفع، إلا أنه على الأقل يمنحُ نوعاً من الإحساس بعدم الوحدة والاستفراد، ونوعاً من التضامن الذي يترك أثراً عميقاً في الذاكرة الجمعية.


ينفتح أمامنا سؤالان كبيران اليوم، الأول: لماذا وصلت الرقة وتَدمُر وغيرها من مناطق الشرق السوري إلى هذه المآلات، حيث يبدو أن أحداً في هذا العالم لا يَطرحُ، ولا يستطيعُ أن يطرح وقفَ قصفها والحرب فيها وعليها؟ والثاني: أي مآلاتٍ تنتظر الرقة وأخواتها؟ وهي اليوم بين البقاء تحت حكم داعش مدعومةً بسفاهة هذا العالم، أو العودة إلى سيطرة النظام مدعوماً بالطائرات الروسية العمياء، أو اقتحام قوات سوريا الديمقراطية لها مدعومةً بطائرات التحالف العمياء أيضاً، دون أيّ احتمالٍ رابعٍ يلوح في الأفق.


ليس ثمة إجابةٌ على السؤال الثاني، لكن إجابة السؤال الأول يسيرةٌ على كل حال، يسيرةٌ على كل ذي بصرٍ وبعضٍ من بصيرةٍ وأخلاقٍ وسياسة.


يتحمل هذا العالم بمعادلاته السياسية والثقافية وتوازنات قواه مسؤولية دماء أهل الرقة، يتحملها نظام الأسد الذي لم يترك لأحدٍ خياراً سوى الحرب، وتتحملها دول الإقليم «الصديقة» للشعب السوري. غير أن مُساءلة العالم وبناه الثقافية والسياسية غير ممكنةٍ عبر الرقة وحدها، فهذا عالمٌ يتداعى، يُدمَّرُ فيه بلدٌ كسوريا فيما يستمر نقاشُ مسألةِ بقاء مجرم حربٍ في السلطة، ويصيرُ فيه عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر، وتغرقُ فيه عاصمةٌ كبيروت في القمامة، وإلى آخر الأمثلة.


غير أن ما تَفتحُ الرقة وأخواتها المغدورات البابَ واسعاً على مُساءلته، هو الاجتماع السياسي السوري، هو الثقافة الوطنية السورية المزعومة، هو نحن السوريون من أبناء مناطق أخرى، إذ لم نكن نعرف عن الرقة شيئاً تقريباً، ولم نكن نعرف عن تَدمُر سوى آثارها وسجنها الرهيب، لا نعرف شيئاً عن بشرها وآلامهم وطموحاتهم وحقهم في الحياة والشراكة.


نقف اليوم حائرين تماماً بين ضرورة إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، وهو كيانٌ حربيٌ محكومٌ بمواصلة القتال، وبين ضرورة الدفاع عن الرقة وأهلها وحقهم في الحياة والحرية. لكن ثمة ما يمكن فعله دون شك، لأن ما يجري في الرقة اليوم ليس نهاية المطاف.


نستطيع أن لا ننسى الرقة وتَدمُر وأخواتهما، نستطيع أن نتحدث ونكتب وننقّب في تاريخنا القريب والبعيد، نستطيع أن لا نسمح للعالم أن ينسى مسألة الثورة السورية الأساسية، وهي حق عموم السكان، أي سكان، في العمل السياسي ورفع أصواتهم في الفضاء العام، والشراكة في صُنعِ حياتهم.


نستطيع التأسيس كي لا يكون ممكناً تهميش مدينةٍ أو منطقةٍ أو فئةٍ مرة أخرى في بلادنا أياً كانت حدودها ونظامها السياسي، نستطيعُ أن نصرخ في وجه العالم كله، ونقولَ بالأدلة الدامغة، وهي كثيرة، أن العرب السوريين في شرق سوريا ليسوا حاضنةً لداعش، بل العالم كله حاضنةٌ لداعش. أليس سكان الشرق السوري هم من قاتلوا داعش ببسالةٍ طيلة أشهر؟ فيما كان العالم يلاحق أسلحة الأسد الكيماوية، ويتركه يدمر البلاد ويفتح دروبها أمام داعش.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +