أشكال ألوان| علي، علي البابنسي

أشكال ألوان| علي، علي البابنسي

 


16/3/2012، في ذلك اليوم، الذي غيرت فيه الرقة رأيها، خارجةً عن صمتها بإطلاقها مظاهراتٍ على نطاق واسع ضد نظام الأسد، غضباً لباكورة شهداء المدينة علي البابنسي: في ذلك اليوم كان القرار الذي اتخذه المجتمع الأهلي في الرقة، برفضِ نظام الأسد مهما كلف الأمر، واضحاً وواضحةً أبعادُه للجميع هناك.


بالطبع، في مجتمع أهلي ذي منظومة قيم تقليدية صلبة، رُؤيَ الصراعُ مع الأسد على أنه صراعٌ حتمي، ورؤيت التضحيات حتمية، وفي الأيام التالية قدّمت الرقة المزيد من الشهداء. واليوم يجدِّدُ الافتداء الذي فُرضَ على الرقة، سؤالَ الشهيد والحياة والافتداء، مثلما عندما صعدت روح الشهيد الأول.


الانتهاكُ الفاجر الذي يمثله إطلاق النار على شبانٍ يهتفون، وبالمقابل، الشجاعةُ وما مثَّله هؤلاء الشبان القلة، بالنسبة للأهالي، قبل انتفاضة الرقة وبعدها، جنين الغضب والتطلُّع الذي تنفس أول مرة في قبضات هذه النخبة الجديدة، كل هذا ما يزال يؤثر في واقعنا وإن عبر قنواتٍ شتى من الأحداث والأفكار التي يصنعها الناس. ومع انقضاء الذكرى الخامسة لثورة الكرامة السورية، فإن شهيد الذكرى الأولى، والذي فجر انتفاضة الرقة، ما زال يقول لنا.


أولاً، إن الزمن الذي انقضى على الرقة مؤخِّراً ثورتها عاماً، ليس شيئاً، ويقولُ لنا إن ذكرى الثورة ثورة، وإن كل إرادة هي احتمال كبير. فالتشييع الغامر، والذي عُدَّ نقطةً فارقةً في عمر الثورة السورية، أخرجَ الرقة التي اختارها الأسد لأولى صلواته أمام الكاميرا بُعيد اندلاع الثورة، من قطّاع عالم الأسد. احتاجَ بعدها النظام إلى رفع سوية القمع، ومقاطعة تحالفاته التاريخية التي كان شيّدها مع الزعامات التقليدية.


علي البابنسي والمتظاهرون الأوائل الآخرون، كانوا عملياً، من قطعوا نهائياً مع سلطة زعماء العشائر حلفاء الأسد، وفي تشييع علي البابنسي، يؤكد ناشطو الرقة أن كبارهم لم يعودوا كباراً، انزاحت الزعامات الرثة إلى الموت المحتوم الذي يفرضه التطور، ونهض عالم جديد واعد، كما كلَّ ثورة: ظهرت قوى مؤثرة جديدة هي هؤلاء، متظاهرون ومواطنون صحفيون ومنسقو مظاهرات وصانعو تغيير، وناس. نخبةٌ مفتوحةٌ لا تحمل نزعة احتكار، متحدية، محتفية بالحريات والتظاهر والحياة المدنية، تائقة لحياة ومستقبل، كارهة للماضي والطغيان وصوره الخفية.


طبعاً، لم يعد الموقف في الرقة يتحدد بما سلف، وكل هؤلاء الجنود المجهولين هم اليوم في المنافي أو في السماء. تتراءى الرقة غائبةً غائمةً من وراء الدم، تُذبح بصمت. يتذكر الرقاويون أن مدينتهم الصغيرة المهمشة في زمان الأسدين، والتي هي اليوم محطُّ صراعٍ دموي لا شأن لها به، حدث لمرةٍ أن امتلكت زمام قرارها وفعلها، وبلورت رغبةً توافقية في إدارة المجتمع، وكان يمكن للأمور أن تسيرَ أفضل. أن الثورة السورية، بكل نقصانها وأخطائها ومشاكلها، كانت هي التعبير الرقاوي الوحيد. التفكير في موت أو انقضاء الثورة السورية، يعني بالنسبة للرقاويين، أو على الأقل لمن أعرفهم من أصدقاء هنا في تركيا، ولكل رقاوي قابلته، موت الأمل بالمدينة كتجسيدٍ لاجتماعٍ ناجح كانوا على وشك إنجازه، المدينة كمدينة.


يتدفقُ الرقاويون داخل جسم الثورة السورية ويعملون ما في وسعهم لخدمتها، ذلك أنها الكيان الوحيد، الذي كانوا شركاء عضويين في بنائه. يعرف الرقاويون الثورة السورية ويحتاجونها بشدة، ويفهمون الأمل عبرها. لم يسقط الشهداء عبثاً، كما ليست داعش آخر الزمان طبعاً، كل إرادةٍ هي أمل.


يظهرُ في الفيديو الذي يوثّق اللحظات الأخيرة للشهيد علي البابنسي، أحد من يسعفونه، سأله بصوتٍ لاهفٍ ملآن:


- شسمك إنتا.


لوهلةٍ، تشعر كما لو أن هذا الرجل غير المسمَّى، والذي ساءَل المصابَ غير المسمَّى، كان دارياً بالجنون القادم. كما لو أنه كان يقول: ما اسمكَ أنت، فموتكَ يا هذا سيعني الكثير، ما اسمكَ كي نتورّط من أجلك، سنقلبُ الأرض ولن نوافق، أعرفُ الغضب وأعرفُ هذا المكان جيداً.. واسمكَ.. تعلم، سيكون مهماً.


- علي، علي البابنسي.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +