أشكال ألوان| إنّهم يمنعوننا من الحزن؛ قلوبهم ما بيها رحمة

أشكال ألوان| إنّهم يمنعوننا من الحزن؛ قلوبهم ما بيها رحمة

لكَ أن تراها امرأةً من حكاياتٍ شعبيّة وخرافات، أن ترى الشمس نحاسيّة على وجنتيها. لك أن ترى خطوط الدمع غامقة، كأنّ الليل المنتظر قد تعتّقَ وشاخَ قبل أن يولد. لك أن ترى عيناها حصاتين صغيرتين، يسيلُ منهما تاريخ ممالك الفرات. لك أن ترى على الجبين دروب القرى الآمنة والمنسيةّ في البادية، إلى حيث لا شيء تعنيه الجهات، كأنّ الضياع هو الغاية إذا ما تلفّع بالغبار والصهد. لك أن ترى النجم الساري لمن عزّ عليه اللقاء. لك أن ترى الهباري العراقيّة من حرير وقمحٍ وليلٍ ورائحة الخبز، ونجمة موشومة بين العينين، كأنّها ما اتفق عليه العرب وما اختلفوا في تأويله. لك أن ترى الجدائل أربعًا كالمعلّقات المضفورة بشرائط  سوداء. لك أن ترى العنق فانوسًا في ليل تمّوز، وعيون الرجال فراشات ودراويش. لك أن ترى الجسد غائبًا خلف ثوبٍ شفافٍ ينسدل فوق ثوبٍ غامقٍ كالأسرار، ثم هناك تغيب الحقيقة ويكون الغياب كشفًا لمن اشتاق لقطع المسافة بين الهجر والوصال.


هي المرأة الرقة. هي الذاكرة التي لم أعشها تمامًا، لكنها باقية أبدًا في جيناتي الوراثيّة، كأنّها رائحة اللبن المطبوخ، ملمس البساط الصوفي الخشن، شدّ الأمراس، تلويحة الأكف بخبز الصاج، طنين النحل فوق الأبيض الأخير في العزاء. هي المرأة التي تجلو القلب بالحزن إذا ماتراكم فوقه صدأ الضحك المزيّف؛ الضحك الذي يميت القلب. هي المرأة التي تعرف جيّداً أنّ الحزن هو الأصل الذي تنفجر منه عيون المجاز، حين توغل في أعماقها فترى الحياة جذعَ شجرةٍ يابس على مرأى النهر، والنهر الزمان الذي يجري بمحاذاتها.


قالت: ما عاد نقدر نبكي وانّعي على كيفنا... خذم كلّ احبابنا منا، وماخلونا للحزن باب!


وعندما يمنعون عن المرأة الرقاوية الحزن، يقطعون عنها أسباب الحياة، كأنّك تصادر البريّة من عدو الغزالات، من انحناء رقابهنّ إلى الوراء، من انتباهات حادّة في حضرة بندقية الصياد:


أبالكْ يا گانوص أبالكْ ...من الريمة الْـ عدّت گبالك


كأنّك تعتقل الفرات فلا تعبره خيولٌ بريّة من الجزيرة إلى الشامية، ثم تصهل حين ينتفض الماء عن غرتها وهي تعدو في سهولٍ من قيظٍ ويباب. كأنّك تسكت بقبقة الماء في القواديس، فلا تقاربها بخفقِ القلب إذا مرّ الحبيب. كأنّك تترك العشب النابت في حناجر العذارى يزهو، ثم يشتعل فلا يأتيك صوتهنّ حادًا في النداء. كأنّك تمسك الهواء، فلا يسمعنَ صوت الريح في ظهيرة تعبر بهنّ إلى العزاء!



هي ليست امرأة واحدة، إنّها جمعُ النساء الرقاويّات عندما يتنادين إلى الحزن، يأتين على كلّ خطوٍ ضامرٍ ومن كلّ فجٍ عميق. يشق السكون صوت أوّل امرأة ثم تتبعها النساء، تشقّ ثوبها فيتبعنها، تخمش وجهها فيفعلن مثلها، تقصّ جدائلها فيصنعن من الجدائل فراشاً أخيرًا يسجّين عليه الوليمة، ثمّ إذا شبعنَ من الصدمة الأولى التفتنَ إلى الحزنِ وأعددنَ أنفسهنّ للطقوس.


يبدأ النعي عندما تهدأ النفس قليلاً. يجتمعنَ في حلقاتٍ متداخلةٍ بعيونٍ متورمة، وأصواتٍ تخرج من آبار محفورةً في أعماقهنّ. يرتفع الصوت وينخفض كأنّك في خلية نحل تصنع عسل الحزنِ اللذيذ، طنينٌ يأخذك من نفسك. تحاول أن تفهم ما تقوله، ثم تدرك أنّ المعنى يأتي من الإحساس لا من الكلمات؛ المعنى الذي يقودك إلى الفهم.


ومع ذلك تبدأ الكلمات تتشكّل قصائد ودموعًا هادئة، قبل أن يسقط الطنين كلّه في النشيج من شدّة التّوق، أعني من شدّة الحزن.


لارگى على تلّ الرمالْ...جسّامْ هالگرعة يا عيّالْ


ياعيّال! ياظالم! هو الغضب الكامل والمعتّق، الرّغوة التي تتشكّل أوّلاً في «شچوة» القلب قبل أن يستحيل لبن الدموع زبدةً للحزن. تريدُ أن تصعد على تلة عالية لتخاطب ربّها غاضبة عاتبة على نصيبها «من قرعة» القدر. تَحسَّس الحزن لا تفكّر بالكلمات!


يبدأ حفّار القبور مهمته وتبدأ الوصايا:


حفّارْ خلْ للگبر باب... بيني وبين أمّي عتابْ


حفّارْ وسّدهنْ ورگ تين... وارفع جدايلهن عن الطينْ


حفارْ وسّدهنْ ورگ تين... فراشچْ وحلْ وغطاچ طينْ


ياللحزن! لا يعكّر صفوه سوى اقتفاؤك لأثره في الكلمات، انسَ الكلمات وادخل في ظلالهن إلى جوهره:


گلبي مگطّعْ من عروگه/ ريجي صَبِر يا مِنْ يذوگه


گلبي مثلْ شبّوط جاري/علْ مالهمْ بالحيْ طاري


ولأنّ اللقاء متعذّر، فالحزن كفيلٌ أن يفتح قناةَ تواصلٍ بين من هي فوق الأرض، ومن يقبع تحتها:


اختي ودزيلي لحافي/ تراب القبر وسّخ كتافي


اختي ودزيلي مخدتي /تراب القبر وسّخ وجنتي


ثم يفور الحزن حين تتخيّل ما يحدث لمن في القبر، وقد استحال عظامًا:


تباوعي بالقبر شوفي/ سِقطْ خاتمي بِلْيَن كفوفي


غيابٌ لا عودة فيه، جسدٌ يبلى وعظامٌ تبرز، لتنهي الحوار برؤية أخيرة على ما يصيب الإنسان بعد الموت.


إنها النهاية! هذا ما يقرره الحزن المقدّس بعيدًا عن صراط الحلال والحرام وفلسفة البعث بعد الموت. لم يعد بعد كلّ هذا ما هو أبلغ من دمعٍ يُذرف من عينٍ ترى كلّ أعين الحزانى صورتها، وفي كلّ دمعة منهمرة دموعها:


وابچيلجن من كل باچي... وكل ما يطيحلچن مباچي


ثم تأتي الفورة الأخيرة عندما تنجذب النفس كليًا إلى الحزن، وقد غادرت رثاء الجسد إلى وجع الروح، تعتّقه وتُشرِب صدرَها منه بأكفٍ تضرب عليه بقوّة، تتمايل أجسادهنّ، يترنّحن من الوجد به. ما عاد مهمّاً أن يجري الزمان أمامهنّ، انعتاقٌ تامٌّ، هَبَل، خَبَل، هيامٌ يفضي إلى العمق.


حلقة تضيق ثمّ تتسع؛ لتبتلع حلقة أخرى. دوائر مغلقة، مركز للمرأة الأصل كأنها الشيخ وهنّ كلّ مريد، كأنّها المطلق وهنّ تجلياته:


الوانْ يا عشب الربيعْ الواني... السنْ يضحكْ والقلبْ حزناني


كلّ مِنْ سگاه البينْ فنجالْ اگهوة... وآني على اثمْ الجودْ لُمْن ارواني"


الحزنُ حصّة الأحياء لا الموتى. فمن مات فات. لهنّ الحزن الظاهر والباطن والغائب والحاضر والمستقيم والمتعرّج، الحزن الذي يشبههنّ ويشبهنه بكلّ تناقضاته، قبيحًا وجميلاً، عفيفًا وفاجرًا، خجولاً ووقحًا، ظالمًا ومظلومًا، مؤمنًا وكافرًا...


 


قالت لي: «يمنعوننا من الحزن؛ ﮔلوبهم مابيها رحمة»


اختنقنا معًا بغصةٍ واحدة نهضت منها كلّ نساء الرّقة إلى العزاء، وفهمتُ كلّ شيء!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +