أشكال ألوان| ثلاثة من الرقّة

أشكال ألوان| ثلاثة من الرقّة

ثلاثةُ أشخاصٍ سوفَ يصعبُ على السوريين تذكُّرُ محافظة الرقّة من دونِ تذكّرهم، حتى لو نسوا كلّ ما يتعلّقُ بتاريخ المدينة التي تأسست في العام 244 قبل الميلاد، وكانت مركزًا اقتصاديّا وعسكريًا في العصر البيزنطي، وأنّها سُمّيت في بادئ الأمرِ «كالينيكوس» نسبةً إلى مؤسسها «سلوقس الأول» حسبَ إحدى الروايات، أو نسبةً إلى الفيلسوف اليوناني الذي يحملُ نفس الاسمِ وكانَ قد دُفن فيها، وفقَ روايةٍ أخرى. أشياءُ كهذه لا تستهوي شرائحَ كبيرة من الناس عادةً.


قد لا يتذكرُ كثيرٌ من الناس أنّ الخليفة العباسيّ المنصور، شيّدَ مدينةً على تخومِ الرقة، وكانَ اسمُها «الرّافقة» قبل أن تندمجَ مدينةُ المنصورِ مع الرقّة. وقد لا يتذكرونَ أيضًا أنّها كانت عاصمةً لهارون الرشيد، ولا أنّ فلكيينَ وعلماء وشعراء كانوا قد عاشوا في المدينةِ التي تقعُ على الضفة الشمالية لنهر الفرات، شمال وسط سوريا.


لكنّ ثلاثةً من أهلِ الرقّة يعلقونَ في ذاكرةِ شرائح واسعة من السوريين أكثر من سواهم، لا لتفوّقهم على آخرينَ مجهولينَ (أو معلومين) من المدينة، لكن لتنوّعهم واختلافِهم، حتّى يكادُ المرءُ يعتقدُ أن لا شيء يجمع بينهم، إلا انتسابهم المناطقيّ للرقة.


أولُ هؤلاء الثلاثة، هو الكاتبُ والطبيب والسياسيّ الراحل عبد السلام العجيلي. الذي يكادُ يكونُ مَعلمًا أثريًّا لا في الرقّة وحسب، بل في عموم الأرجاء السورية، وربما العربية. فالراحلُ الذي ولدَ في العام 1918 يعتبرُ واحدًا من آباء الأدب السوريّ الحديث، ويذهبُ البعضُ إلى اعتباره مؤسس الرواية السورية، وقد نشر الراحلُ أولى قصصه القصيرة، في العام 1936 على صفحات مجلة الرسالة المصرية، وكانت بعنوان «نومان». وانتُخب نائباً عن محافظة الرقة في العام 1947، قبل أن يشاركَ مع الذين شاركوا في جيش إنقاذ فلسطين بعد نكبتها عام 1948. ثمّ عُيّن لاحقًا وزيرًا أكثرَ من مرة، فتولى الثقافة، والخارجية، وكانَ قبلَ ذلك طبيبًا مقيمًا في مدينته، فاتحًا أبواب عيادتهِ لكلّ من يحتاجُها. ويُروى عن الراحلِ أنّ شقيقًا لهُ كان يدرسُ في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتكفّلُ العجيلي بمصاريفِ حياته ودراسته. وبعد أن صار الراحلُ وزيرًا، وصلتهُ رسالةٌ من شقيقهِ، يعتبُ فيها عليه، لأنّ دعمهُ الماديّ لم يعد كما في السابق، فردّ العجيلي لشقيقهِ أنّ رسالتهُ محقة، ولكنّهُ بلا عملٍ الآن، منذُ تركَ عيادته وتفرّغ للعمل الوزاريّ! وأردفَ أنّ تعديلًا وزاريّاً يلوحُ في الأفق، وقد يكونُ في هذا التعديل بصيص أمل، إذا ما استُثنيَ من أي تشكيلٍ وزاريّ، مما يضمنُ عودتهُ إلى عيادته وبالتالي يمكنُ أن يعودَ لسند شقيقه ماديًا في أمريكا!.


ذلكَ هو عبد السلام العجيلي، الذي رحل في العام 2006 مخلّفًا أربعة وأربعين كتابًا وسيرةً عطرةً لا يُمكنُ نسيانُها. حتى صحّ فيهِ قولُ الراحل نزار قباني: «عبد السلام العجيلي، أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية».


أما ثاني أولئكَ الثلاثة الذين يصعبُ نسيانُهم، فهي شخصيّة «فضّة» في مسلسل «خان الحرير» الذي كتبهُ نهاد سيريس، وأخرجهُ هيثم حقّي، وعُرض في العام 1996، وتدورُ أحداثُهُ في حلب، ويتناولُ حقبةَ ما قبل الوحدة السورية المصرية، فالوحدة فالانفصال. بما في هذه الحقبة من حراكٍ اقتصاديّ وسياسيّ لدى المجتمع الحلبي، من خلال أحد أشهرِ أحياء المدينة، وهو خان الحرير. وفضّة هذه (التي لعبت دورها الفنانة أمل عرفة)، كانت فتاةً من الرقّة تغنّي في خيامِ البدوِ للمسافرينَ الذين يتوقفونَ لديهم لقضاء استراحة قبل إكمال طريقِ السفر. وليست الشخصيةُ بحدّ ذاتها ما يجعلها خالدة في أذهان السوريين، بل تلك الأغاني التي عرّفت كثيرين إلى تراث تلك المنطقة، وفنونها. فالسوريون، وسواهم آخرين كثرًا، لا يمكنُ أن ينسوا مثلًا:


على كيفك على كيفك ... تزعل ترضى على كيفك


قلبي نازل عندك ضيف ... حبيبي توصّى بضيفك


وأغنيات كثيرة غنّتها أمل عرفة في المسلسل باقتدار، حتى ظلّت خالدة في وعي الناسِ الذين عرفوا فنونَ الرقة من خلالها.


 

ثالثُ الثلاثة الرائعين، هو «أبو طه المَرَنْدي»، وقد لا نحتاجُ جملًا كثيرةً للتعريفِ بالرجل، تكفينا جملةٌ واحدة ربما، أنّ « المَرَنْدي» هذا، هو الرجلُ الذي يظهرُ في الصورة الشهيرة التي أعقبت تحريرَ الرقة من عصابة الأسد (قبل أن تحتلّها مجدداً عصابة البغدادي)، الصورة التي أظهرت أهل الرقة يُسقطونَ تمثال حافظ الأسد وسط المدينة، ومن بينهم ينسلّ أحدٌ ما ويبولُ على التمثال في سلوكٍ غريزيّ لم يخضع لأي قوانين ولا أنظمة.


«أبو طه المَرَنْدي» هو هذا الرجل.


maxresdefault

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +