أشكال ألوان| الرقة المجهولة

أشكال ألوان| الرقة المجهولة

قبل حوالي قرن من الآن، وعشية قيام الحرب العالمية الأولى، وهزيمة الأتراك، ومن ثم دخول الفرنسيين لاحقاً إلى سوريا، تمكن أهالي الرقة وأعيانها بقيادة الشيخ حاكم ابن مهيد الفدعاني من أن ينتزعوا لأنفسهم حكماً ذاتياً وطنياً استمر لمدة خمسة عشر شهراً، وقد خاضت هذه الدولة التي سمّاها عبد السلام العجيلي «الدولة المجهولة»، حرباً ضروساً ضد الاحتلال الفرنسي مدعومةً من الأتراك، وقد كاد جيش هذه الدولة أن يسيطر على مدينة حلب المجاورة، لولا تغيّر الموازين والاتفاقيات الدولية، وخذلان الأتراك لجيشها الناشئ، حيث استسلمَ أخيراً لقوات القائد الفرنسي «بغوار»، الذي دخل الرقة دون مقاومةٍ تُذكر.


يومها قال شاعر الفدعان «صعيفر» يصفُ قصف الطائرات الفرنسية للرقة:


طيارةٍ فوقنا حَامتْ


ذَبّت على الناس بمباتي


والبارح العين ما نامتْ


ما تدري الصبح وش ياتي


وإذ كانت الرقة أولى المحافظات السورية، التي خرجت من تحت سيطرة نظام الأسد، بعد قيام الثورة السورية، وتمتعت ولو لفترة قصيرة بإدارة أهلية، قبل أن تأتي داعش لاحقاً وتكسوها بالسواد، فإن ذلك يعيدُ إلى الأذهان، تجربتها الاستقلالية- المجهولة.


الرقة.. الرقة


خليطٌ من عربٍ وكرد، شوايا وحضر، أرمن وشركس، مسلمين ومسيحين.


نهرٌ من الغناء، يبدأ من جرابلس، وينتهي بالتبني.


وإذ كان الشاعر الفدعاني قد قال قصيداً يوثّق لقصف طائرات العدو الفرنسي لأهلها قبل مئة سنة، فإنهم اليوم مازالوا على ذلك الديدن، إذ يسمّون الطائرة التي تقصفهم بـ «مريومة»، فهؤلاء الشوايا لا ينقصهم حسُّ الدعابة!


الرقة ابنة الطمي، نهرٌ يمتد على التراب وينحسر، ليتشقّق هذا التراب لاحقاً بفعل حرارة الشمس إلى رِقاق، وتُسمّى كل مفردة منها (رَقّة)، أو ليس هذا شعراً؟!


هادئة ووادعة، إلا أنها لا تعترف إلا بفراتها سلطاناً.


ds_128

روى لي شوفير زوزكي «شاحنة صغيرة» يوماً.. قال: في فترة الظهر كنتُ أقود السوزوكي في أحد شوارع الرقة، فأشّرت لي إحدى الشاويّات وهي في الخمسين من العمر، فتوقفت لها، ثم ساعدتها في وضع أغراضها التي تَسوَّقَتها في صندوق السوزوزكي، ورَكِبَت إلى جانبي وتوجهنا إلى الكراج.


على الطريق أشّر لي راكبٌ آخر، فاستأذنت الشاوية الكهلة أن تسمح لي بأن آخذه معنا، فوافقتُ ببساطة، وبعد أن وضعتُ حاجياته في الصندوق، وركبَ هو إلى جانبها بجانب الباب، تابعنا التوجه إلى الكراج.


كانت المسافة بعيدةً نوعاً ما، وكانت تلك المرأة محصورة بيني وبين الرجل الآخر في مقدمة السوزكي الضيقة، وقد واجهتُ صعوبةً في تحريك الغيار «الفوتيس».


فقلت لها مستأذناً: خالة معليش تبعدين رجلك شوي منشان أقدر أغيّر الفوتيس؟


فضحكت وقالت ببساطة ريفية: غَيّر يا ابني غيّر، خوران خالتك ياما مْعَبّي فوتيساتْ!!


لا أدري... كيفَ يمكن لي أن أحيط الرقة بمقال، فإذ حضرت الجغرافيا، يحضر الناس، وإذ حضر الناس تحضر طُرَفُهم وحكاياتهم وأغانيهم، وإذ حضرت الأغاني فذاك، يعني أن يطول الحديث إلى ما لا نهاية.


كتبتُ منها وعنها ثلاث مسرحيات، ولم أزل في البداية، نعم في البداية.


العالم كلّه يريد أن يحيلها إلى سلةٍ لمهملات قذارته ومرتزقته وتكفيريه وقتلته، أما أنا فما زلت مصرّاً، على أنها عتيقةٌ وعريقةٌ وملونة، كالهباري التي ترتديها أمّي.


الرقة ليست شهيدة، فذلك تبريرٌ ضمني لإجرام قاتليها.


الرقة بيضاء، كَلَون قطنها، وقلوب أهلها:


وعيني على الْغَرّبم


عيني على ابو قْضاضة


ونْ كانك تسأل عنّا


بقلب الرقّة قيّاضة

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +