أشكال ألوان| ذكرياتنا المصلوبة

أشكال ألوان| ذكرياتنا المصلوبة

يأبى القلب أن يغادرَ مفترق الطرق الذي التقطتُ له صورةٌ في اللقاء الأخير؛ تلك الصورة التي وثّقتُ فيها ذكريات الأهازيج التي تنساب عذبةً حين تمرّ من تحت شرفة منزلي. كنتُ أنتظرها كما لو أنها حالة انعتاقٍ من كل السلطات الاستبدادية التي واجهتها، ابتداءاً من أوامر التوجه إلى الفراش، حين كنا صغاراً، وصولاً إلى مداهمة الساعة السادسة والنصف صباحاً. أصوات بساطيرهم وهي تركل الباب، لتنتزعه من فراشه لمدّة عشرة أيام، أيامٌ قليلة جرّبت فيها آلام مئات الآلاف من الأرامل والثكالى السوريات، اختبرتُ خلالها قسوة ذلك الشعور، الشعور بأن ذلك الغائب يتأرجح بين الحياة والموت، وأن عليكِ أن تبرمجي حياتك على أنه لن يعود، وحين يعود عليك أن تفكّري ألف مرة بمشاعره، بمن حولك، بأطفالك وما ستقولينه لهم عن غيابه، بوالدته الثمانينية التي لن يقوى قلبها على احتمال كلّ هذا الخوف، بكِ أنت، كيف ستخرجين من كلّ هذه المستنقعات دفعةً واحدة!


التقطت يومها صورة من الشرفة بيد مرتجفة، يد ترتجف من هول جريمتي، جريمة أن تنتمي لبلد يقمع الجمال والياسمين!


كم هو قاسٍ أن تحبس أنفاسك، لمجرّد كونك تحاول أن تحتفظ ببقايا صورِ أَمسِك، قبل أن تطحنها رحى الحياة!


كان ذلك في يوم الجمعة، وقت الظهيرة، حيث الخفافيش تجوب كل الشوارع، خوفاً من تسرّب قنبلة بشرية بين جموع المصلين، تطلق صيحة حرية واحدة، خوفاً من تهاوي عرش طاغية لا يدين له الشعب، إلا بتعلّمِ كل مفردات الخوف.


وجوه متمترسة خلف الحديد والصفيح، باردةُ القسمات، أيدٍ بلا ملامح تقبض على الهراوات في حين، وتضغط على الزناد في أحيان أخرى، لا تميّزُ نظراتها الحانقة بين مسن أو طفل، بين رجلٍ أو امرأة.


رحتُ أجوبُ الشوارع، بحثاً عن قسمات الناس الذين عرفتهم، كلّهم امتطوا صهوة الريح وغادروا. كلّ الوجوه كانت غائبة الملامح، الأزياء باتت غريبة عن تلك التي اعتاد أن يرتديها أبناء مدينتي، الشوارع خاوية إلا من بضع توابيت تجوس الطرقات على مهل، هياكل  محنطة، ووجوهٌ غاب الدفء عنها، واختفى من حدقاتها بريقُ الأمس.


في الجولة الأخيرة تلك، كنتُ أحاول ملءَ سلة ذكرياتي، وليتني ما فعلت، فما بقي من معالم البلد كفيلٌ بأن يفرغ الروح، وينقضّ عنها ما تبقى من ذكريات!


عند الشارع الذي نجوت وأطفالي فيه من تفجيرٍ، تذكرتُ الغبار، تذكرتُ نظرة الهلع في عيون أطفالي، تذكرتُ الرفاق الذين وجدتهم بجانبي يومها، دون أن أدرك من أي الاتجاهات أتوا. كم كانت صغيرة ودافئة مدينتنا! وكم التهمَ البرودُ من أرواحنا!


مررتُ يومها من السوق، لم أرَ أكوام الفاكهة المرتبة والمصفوفة، لم أرَ الوجوه الضاحكة، كان كلّ واحدٍ منها يحدّق في المجهول الذي ابتدَعته مخيلته، ليكسر سطوة الهلع والخوف!


اليوم وبعد مضيّ سنواتٍ ثلاث، أستعيدُ رائحة النبتة العطرية التي كانت جدتي تزرعها في أصصٍ معدنية، في تلك الفسحة السماوية حين كنا صغاراً. أنسى أننا كبرنا، وأستعيدُ صرخاتنا المجلجلة، أصواتُ الباعة في السوق، التي كنت أكره المبيت في بيت جدي لأنها توقظني منذ الصباح الباكر!


أتذكرُ نشاطَ جدتي التي تستيقظ منذ السادسة لتطبخ الرز بحليب، الذي يجلبه جدي معه وهو عائد من صلاة الفجر.


تقفزُ إلى المخيلة فجأةً صورة مظاهرة التشييع في بدايات الثورة، تشييع الشهداء من المشفى المجاور، الأصوات الهادرة التي تحيي الشهداء «لا إله إلا الله..والشهيد حبيب الله»، جموعُ الناس التي احتشدت لتحمي الجثامين من الاختطاف، الدكاكين التي التزمت في اليوم التالي بالإضراب حداداً على أرواح الشهداء.


يال تلك الشرفة! كم مرّت عليها قصص وحكايا، وكم دفنتُ فيها من حسرات!


أغلقُ الباب خلفي، وأقتلعُ جزءاً من الروح هناك، أتركه على واحد من رفوف المكتبة، بجانب رواية «حين تركنا الجسر»، الرواية الأحبّ إلى قلبي!


أجوبُ الشوارع التي لطالما تجولتُ فيها بحثاً عن بطة عبد الرحمن منيف «الملكة»، لكن حظي لم يكن أفضل من حظ زكي النداوي، فالخسارات التي تركناها حين غادرنا ذلك الجسر، أفقدتنا النشوة بصيد «البطة الملكة»!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +