أشكال ألوان| الهويّة القاتلة

أشكال ألوان| الهويّة القاتلة

حيثُ ولِد، لم يكنْ هناك كتبٌ عن الوطنية ولا شعاراتٌ تندرج تحتها مسمياتٌ كبيرة وعميقة، عن الموت والنضال والخيانة والحياة. كان هناك نساءٌ بغمازات صغيرة، وشعرٍ طويلٍ مجدولٍ بلا عناية واكتراث، وآثارٍ لوشومٍ زرقاء اللون على المعاصم والذقون، ونساءٌ كبيرات بعصابات على الرؤوس، وكثيرٍ من القوة والصلابة والجلافة والانتماء للقبائل والثأر.


لم يكنْ ذنبُ طفولته أن يحملَه والدُه كما كلّ أبناء عمومته بعيداً إلى البحر، إلى قرية «عرب الشاطئ»* نزولاً عند حكم العشيرة. تشكلت ذاكرته في الطريق الأول للنزوح؛ كيف لبدويٍّ أن يُحاكي حياة البحر!!


عربُ الشاطئ مزيجٌ من اليونانيين الذين آمنوا بالجغرافيا كما لم يؤمنوا بالقومية، هذا الجزء الصغير من العالم يمثّل تاريخَهم وحكاياتِهم معاً، وهذه الأرض تحت أيّ مسمى جديدٍ هي أرضهم، «هم».


في طفولته كان عُمَر سريعَ الخطى في مكانه الجديد، كان عليه وعلى أقاربه أن يجدوا مكاناً لهم، حيث التشبّث بالبقاء أصعبُ من الوقوف على حافة الموت. وكان ينبغي على عاداته أن تأخذَ شكلَها الجديد، ويتعودَ على فِصام اللهجة الجديدة والفتيات الجديدات.


آمنَ بالشعارات الجديدة، وصار يرددها كمن يريد أن يُثبت نفسَه وانتماءاته الطارئة،


الانتماءات الخائفة من «النزوح الجديد». صارَ بارعاً في تقليد اللهجات، وأحبَّ كلّ اليونانيات في الحي المجاور، وغازلَ كل فتيات المدرسة بلهجته القديمة الحنونة.


على أحد الحواجز وقفَ عُمَر، ليجدَ أنّ عليه أن يثبت وطنيته من جديد، طلبَ عناصر الحاجز هُويته فأخرجها غيرَ مرتبكٍ من جيبه الخلفي، لم يخطر في باله أن الإنسان مجموعة أوراق، وأن عليه أن يُخفي هُويته القاتلة هذه المرة.


أخذ رجلُ الحاجز هُويّته، وكأن شيئاً في الحياة قد تغيّر وقتَها، وبدأ بالصراخ مكيلاً كلّ الشتائم والسباب لله والأرض والأمهات والأخوات، واقتاده كمن استعاد ثأراً قديماً لقبيلته إلى الجدار.


مذهولاً... وقفَ عُمَر إلى الجدار، لا يعرفُ ما الذي حدث!


فتّش ذاكرةً كان يعتبرها حادةً، ربما خاض حديثاً ما أو فكرة ما أو أزعجَ «رب الأرض»،


تمتمَ كل الشعارات والمنطلقات النظرية، كيف تكون طليعياً وما هي واجبات «النّصير»،


تذكّر رقمَه الحزبي في العضوية العاملة، والمسيرات التي هتف فيها مجبراً بصوته ويديه، وحلقات الدبكة، تذكّر أنّ آخرَ نشرة أخبار شاهدها كانت منذ أشهر، وأنّ كلّ ما كتبه على صفحته على فيس بوك كان تافهاً متعلقاً بخيباته في الحب وبرشلونة فريقِه المفضل، تذكّر أنّه لم يصلِّ الجمعة منذ سنوات وأن قلبه قد تغلّف.


صامتاً كان، الجدارُ وحدَه يعرف كلّ تلك الأفكار التي كانت تدور في رأسه، فقد حَفِظَت حجارته كثيراً من الذكريات لشبابٍ يشبهونه، وآخرين أصغر من طفولته، ورجال قد أنهكتهم الحياة والفقر، الجدارُ وحدَه، الذي ضاقَ ذرعاً بحجم القذارة المكتوبة على وجهه من شعارات.


دقائقُ مرّت على عُمَر كأنها سنوات، لحظةٌ واحدةٌ أعادتْه ليُشفى من خوفه، لحظةٌ تذكرَ فيها اسمه: «عُمَر دبّاح علي».


أشارَ أحد العناصر إلى «السرفيس» بالمغادرة، كل الذين كانوا هناك دفعهم الفضول للالتفات في لحظةٍ إلى الوراء، لكن الخوف أقعدهم، بدت المقاعد أشبه بالفارغة، وانطلقَ السائق بعيداً.


أيامٌ مرّت، ليصل خبر موتِ عُمَر. تناقلَ أهل القرية الخبر، كلٌ منهم راحَ يحلل الأمر بينه وبين نفسه، والهوية  كانت الشاهد الوحيد على موته.


*عرب الشاطئ: بلدة تقع جنوب طرطوس

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +