أشكال ألوان| العالم القديم، جارُنا الجديد!

أشكال ألوان| العالم القديم، جارُنا الجديد!


أجهلُ تماماً لماذا مانعَ أبي، أن نسلّم على جارنا الجديد. مع أنه محنيٌّ وأبطأ من حجر، ومع أنه جلدٌ على شبح، ومع أن أبي رجلٌ طيب يسلّم على جيرانه.


جارنا الجديد، لا يكون منتبهاً، هو لا يكون أبداً منتبهاً. عرفنا هذا منذ انحدرَ في الدرب أول مرة، صارخاً حذراً مهدداً مكسوراً، أحبَّ دائماً أن يظل وحده. العالمُ القديم، جارُنا الجديد، الذي ظل ينحدر، بطيئاً مثل شيء.


تصرفَ أول مرة كأنه يملك المكان، كل المكان. يصرخُ ثم يجري بعيداً، يصرخُ يخاف يصرخُ يخاف. لماذا لا نشتري له أمجاداً، تبدو كما لو أنها ضرورية.


أبي، ما هي القيامة؟ إنه ينتظرها بشدة، ربما استطعنا فعل شيءٍ من أجله.


قالَ إن كل شيءٍ له، وأشياءً أخرى. قال حتى صار أليفاً مثل أمي، وبغض النظر كيف وصلت أشياء المتحف إلى رئة جارنا، فهو غير مرتاح، من تُراه ثبّت خنجرا في صدره!


صوته الواصل من البعيد كل ليلة يكذّب شفقتي، ولكن فقط صوته العالي البعيد
كان يكذّب شفقتي.


اتضحَ الأمر أكثر، منذ باتَ الصراخُ رتيباً، وانتهت الكلمات الجديدة، لكنها ظلت كلماتٍ من غرابة. إنه يتألم بطريقةٍ ما، بسبب الخنجر المنتصِف في صدره. ما أصعب شرح هذا، لربما كان سقط على خنجر وهو يبكي، لربما كان يعمل في السيرك، يعمل متلقّيَ خنجر، ويجني بهذا النقود.
جارُنا الجديد، كم يثير أسئلتي.


أستطيعُ أن أقلده تماماً، سيضحك، أم لا ترى ذلك أبي؟ المجد والعلياء والشرف، والدم المراق: دمٌ دمٌ كثيرٌ أبي، ألا يبدو لك هذا جميلاً؟ يبدو لي كذلك.


في عقر ديارك تكون المعارك، الزحف والجنود والإيمان والخلود والجدود في مواكب الطلائع، ألا أجيد هذا؟ أظن ذلك. وتلمع الرايات، للوحدة التي سقاها أهلنا بالدم، نمشي إليها دولةً من دم.


أبي، كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، ها أنت تضحك، فلنجربها معه إذن.


أبي ما معنى الانتصار؟ وكيف يركعون... علّه يرتاح لو ركعنا؟ لماذا لا نبحث له عن المفخخات؟ في المول يوجد كل شيء، كما أن الأمة لا تبدو لي كشيءٍ يصعب تدبُّره.


كلها أصوات أليفة، أليفةٌ وبعيدة، تعرفها ذاكرةٌ أخرى في داخلي، ذاكرةٌ مُطفأة.
أحب الصوارم والصليل والرسالة الخالدة، أتخيلها أشياء لا يمكن تخيلها. تقريباً، لا أريدُ أن أعرف، أريدُ فقط أن أظل أسمع هذه الحكاية التي لا تُقاوَم. وكيف عندما تحتاج الرسالة إلى الدولة والدم الكثير، وكيف يقود الجدود والجنود الأمة إلى المجد التليد بعد قربان الفداء، وكيف تعبِّر الدولة عن إرادة الشعب.


الدولةُ وإرادة الشعب أسرارُ حياة جارنا الصعبة، وخيالي الحيران.


والوطن، صوتها ككلمة يشبه الورم والخبل والملل، هل هو لباسٌ يضايق، كلما تذكر جارنا المسكين وطنه تشنج. أرجّحُ أن الوطن حذاءٌ ضيقٌ له ذكرى، أو شيءٌ من هذا القبيل.


جارُنا الجديد، الذي يسلي أيامي.


لماذا ليس الخنجر في مكانٍ آخر غير جارنا، خارجَ أوقات العمل، وكيف يكتبون اسم جارنا في المدرسة. أتخيلُ أنهم كانوا ليغيروا اسمه، العالمُ القديم، نعم.


لماذا اسمكَ هكذا؟ لأنني فدائيٌ ودولتي باقية. تحيا سوريا، هايل هتلر، عاش الإمبراطور، فرانكو الأسد أو نحرق العالم، وترابك الغالي يا سوريا محروس ومنصان.


أبي، كيف يَنصان شيء ما؟


اخلع هذا الحذاء، البس هذه التنورة، سنسميك شارلي، شارلي الكوير، أو ربما شارلوت: فتاةً جميلةً ببساطة، ستحب هذا، بعد أن تخلع وطنك غير الضروري يا صديقي.


تحية وبعد، عرفتُكَ تعبسُ طوال الوقت، أنت تعبانٌ ولا تدري، أنت طيبٌ ولا تخيفني.
أعرفُ سيركاً قريباً، لو كانوا يلزمونك بالخنجر خارج العمل في سيركك الرديء، وأبي قد يساعدك، أبي يعرف المدينة. وأنا أعرف البحر، وأعرف المدينة، ولكن لا أعرف الوغى لنحضره من المتاجر المعنية.


ما كنتُ لأتركك ولكنك تصرخ أكثر، دائما أنت تصرخ أكثر يا رجل. أصدقائي لا يميزونك حين تعبر، ولا حتى مع الصراخ، وأبي لا يهتم لأمرك. لكن صراخك يعجبني، الدروب لا تحسُّ بخطاك ولكنني أفعل، أنت رجلٌ وحيدٌ وحزين، ولهذا أنت رجلٌ غاضب.


لا أحد يحبك، ولكن كذلك لا أحد يكرهك. تعلم، ربما أفضل.


لا أريد أن أراك قيد التناقص بهذا البطء، بطيئاً كصخرة ساكنة تعبر أنت إلى الأمجاد، ومهما كانت الأمجاد يا صديقي الجديد، فالدم الكثير الكثير لا يحرز أي تقدم، مهما كان يعني هذا.


أخبركَ كم أتطلع لمساعدتك، لكن أبي يقول إن عليك أن تكون وحيداً.


تقبل امتناني من أجل الكلمات الجديدة والإلهام، عندما ترحل سأفتقد معناك المنقضي، هراءك الغامض والجذاب المالئ عليّ خيالي، الغزو والمصائر وما يحدث خلالهما، والأمة وخلاصها، والقيامة، تلك التي تحبها، الإمبريالية والعدل القاتل، ومقاومة العولمة.


لو كنتَ فناناً فأنت الأفضل، خنجرٌ في صدرك، وبالثأر والموت: مكررةً مرتين أو أكثر، والدم الكثير والجدود والعهود، واللعبة هذه برمتها.


سأعلم ذات يوم ماذا يعني هذا، وفيمَ كان مقامك بيننا، أثقُ بأنه سرٌ جميل.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +