أشكال ألوان| الأشجار التي أصبحت حطبًا

أشكال ألوان| الأشجار التي أصبحت حطبًا

تتبعُ الأشجار مصيرَ زارعيها الذين عبثت بهم أقدار الحرب، مات كثيرٌ منها في أرض المعركة، قُصِفَت وأطلقت النار عليها، أو أُحرقت عن قصدٍ ليتضح الميدان أمام المقاتلين، فخُضرتها تحجب الرؤية عن ساحات القتال. أما ما نجا من المعركة فقد لاقى نهايات مختلفة، أو اقتُلِعَ من أرضه ونُهِبَ ضمن حملات «التعفيش» الشاملة التي شنّها «الفاتحون»، ليباع كحطبٍ في الشتاء.


في الأعوام الثلاث الماضية، كانت محلات بيع الحطب، بالتزامن مع ظهور أسواق التعفيش، تنتشرُ في معظم مناطق ريف دمشق، وخاصةً جرمانا التي كانت بيئةً خصبةً لبيع أشجار الغوطة الخضراء، لنرى حطب المشمش والدراق والخوخ مسجى كالجثث، وبعضه لا يزال أخضراً. هو سوقٌ جديد للحرب يبيعُ حتى الهواء، وبعد شحّ المازوت واحتكاره وارتفاع أسعاره، لجأَ المساكين والمعدمون إلى الحطب، الذي وصل سعره إلى ما بين40 - 50 ألف ليرة للطن الواحد. وكان كثيرٌ من نازحي الغوطة يضطرون إلى شراء حطب أشجارهم المثمرة من الذين سلبوها الحياة، ليحرقوا شقى عمرهم في مدافئهم البائسة، كما اشتروا أثاث منازلهم المنهوبة من أسواق التعفيش. تلك الأشجار التي عاشت معهم عمراً طويلاً ذاقت نفس معاناتهم ومصائبهم من الشتات والموت، واجتُثَّت من موطنها، بساتينٌ بأكملها تحولت إلى قفرٍ وصحارٍ جرداء جفت فيها الحياة.


لم يقتصر الأمر على مناطق الصراع فقط، فلقد اكتظت أسواق الحطب بالحمضيات وأشجار الغابات القادمة من الساحل وكسب والفرنلق. ربما لم تخض هذه الأشجار أي معارك، لكنها قُتِلَت عن عمد، على أيدي تجار الحروب، لتُباع في أسواقهم التي فتحت باباً واسعاً لجني المال، وقد احتكر هؤلاء المتنفذون هذه التجارة، واكتظت مستودعاتهم بأطنانِ الحطب المعدِّ للبيع.


في السويداء كانت الأحراش الطبيعية هدفاً لرجال قوات الدفاع الوطني واللجان الشعبية، الذين اقتطعوا منها آلاف الأشجار، واشترى بعضهم منشاراً كهربائياً ليسهل عمله ويوسع تجارته. وفي منطقة اللجاة اقتُطِعت أعداد كبيرة من أشجار الزيتون العائدة لبدو المنطقة الذين رَحَلَ معظمهم، ولم ينجُ حتى سكان المنطقة الأصليين من هذه المجزرة، فكانت كرومهم عرضةً للنهب كل يوم دون رحمة.


وفي مناطق القلمون القريبة من الزبداني، تم حرق بساتين بأكملها انتقاماً من الأهالي، أو نهبُ أشجارها لتدخل في سوق الحطب أيضاً، إضافةً لردم آبار المياه التي تُستخدم للسقاية، وحرق أنابيب الري في محاولةٍ لعقاب البساتين وتجويعها لتلحق بمصير مزارعيها، الذين لم يستطيعوا أن يستفيدوا حتى من أخشاب أشجارها ليصنعوا توابيتاً لضحايا الجوع اليومي.


كثيرٌ من الأشجار كانت ضحيةً للحصار الجائر، فلم يجد أصحابها سبيلاً للوقود سوى بالاعتماد عليها كمصدرٍ وحيدٍ للتدفئة وطهوِ ما تيسر من الطعام، مضحين بثمارها التي كانت مصدر رزقهم، مُكرَهين على قتلها بأيديهم التي كانت تدللها وكأنها أحد أبنائهم. وبعد أن نفذت أغلب الأشجار، أُجبر كثير من المحاصرين على إشعالِ ما صنعوه منها، فلجئوا إلى أبواب البيوت والأثاث والخزن والأسرة وأخشاب البناء العاطلة عن العمل، ليدفئوا أولادهم، في محاولةٍ للتمسك بالحياة، مُكرَهين على قتل أشجارهم مرتين.


في إحدى الأحياء الطرفية في جرمانا، وفي مشهدٍ يلخص عبثية الحرب، كانت هناك مزرعة كبيرة تحتوي على مئات الأبواب المحطّمة التي لم تنفع للبيع كأبواب، بعد أن حُطمت أثناء الاقتحام أو القصف. نُهبت من الغوطة أثناء حملات التعفيش، وسُجّت فوق بعضها بشكل يشبه المقبرة الجماعية، لتباع كحطبٍ أو خردة، وعلى مقربةٍ منها كان يقطن عدد كبير من أصحابها النازحين، الذين كانت هذه الأبواب تحرس بيوتهم فيما مضى، وتخبئ خلفها كثيراً من الحكايا والذكريات، يرونها كل يومٍ ولا يستطيعون شرائها ليدفِّئوا بها صقيع أيامهم، هذه الأبواب كانت فيما مضى شجراً مثمراً، لكنه الآن ماتَ آلاف المرات.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +