أشكال ألوان| في الحصار

أشكال ألوان| في الحصار

في الحصار تبدو الحياة وحدها رفاهيةً لا تقدرُ على الوقوف على كُنهها، ومعبرُ الموت، أو كما اتَّفقَ الأحياء على تسميته، كان قد أقفلَ شارعه الوحيد، وأصبحَ القناصُ فوق القصر البلدي عاطلاً عن العمل.


قبلها كان الرهان يبدأُ من الصباح الباكر حتى قبيل المغيب، والحصيلة ربما كانت أكثر من علبة متّة، وأكثر من موتٍ واحدٍ كل يوم. الرهانُ في الشارع المقابل كان على النجاة: «لا تلتفت... امشِ بشكلٍ متعرج... تجنب الألوان الفاقعة... كن كتلةً من اللاشيء».


تعرفُ أنَّ عليك أن تبحث عن شوارع مزدحمة كي لا ترى انحناءة ظلك، ويضيعُ وجهك المكشوف في أكوام اللحم المتلاصقة ورائحة العرق. في الحصار، مُدَّ يدك إلى سلة تفاحٍ، اسرِق من حصارك دمعةً تحوّلك إلى بائسِ «جان فلجان»، وانتقص من حلمٍ قرأتَه ذات يومٍ أن تصبح بعدها «بخير»، فمساماتُ الضوء ما عادت تخترق زحامك.


في كانون الأول عام 2013 كان معبر بستان القصر، أو معبر الموت كما كان يدعى، قد أنهى جدران الفصل بين ضفتي حلب. النظام يخنق من تبقى بلقمة عيشه، كثيرٌ من المواد الأساسية كانت تأتينا من هناك، وصار علينا كي نصل إلى الضفة الأخرى التي لا يتجاوز بعدها الألفي متر أن نقطع مئات الكيلو مترات نحو حماة ثم حلب، وأن نمرَّ عبر عشرات الحواجز القذرة التي أخذت كثيراً من شبابنا، وأخذت ما تبقى من نقودنا.


صيدليتي في طريق الباب باتت شبه فارغة، فمستودعات الأدوية كانت قد تركزت في الأماكن التي يسيطر عليها النظام، وكان يمنع عنا أن نحملها إلى المناطق المحررة، حليبُ الأطفال كان السلعة الأندر التي سابقت الدولار وارتفاعه المحموم في مناطقنا: «لا يمكن أن نسمح بمرور الأدوية للإرهابيين».


كان علينا وقتها أن ندركَ أن الأمور قد حُسمَت، وأن الاصطفاف لا يدخل في باب الإنسانية. كلنا، شيوخنا وأطفالنا ونساؤنا إرهابيون، وعلينا أن نكون هذه المرة ضحية القناص الجديد، هناك قناصون لا يحتاجون للرصاص لممارسة رهاناتهم، هم فقط يبحثون عن وسيلةٍ أخرى للقتل، والإمعان فيه.


الممر الوحيد المتبقي لنا كان الحدود، وحليبُ الأطفال في تركيا يتجاوز سعره أربعة أضعاف ما كان يساويه في مناطقنا، والفقرُ كان سيد الموقف.


معظمُ الذين كانوا يدخلون إلى صيدليتي، كانوا يبحثون عن أملٍ بوجود علبة حليب قديمة تُسكت بكاء صغيرهم.


دخلَ إلى صيدليتي، وكان الغبار وحده يشي بالمكان الذي كان يحتويه، ذقنه الخفيفة ولباسه العسكري وبندقيته الملاصقة لذراعه أضافت هيبةً على حضوره. نظرَ في وجهي ومدَّ قبضته، للوهلة الأولى أردت أن أقبّلها، صوته المخنوق أبعدني عن طاولة البيع، دمعةٌ وجدت لنفسها مكاناً في وجهه المغبر. رمى ما في قبضته من نقود: «بدي حليب لابني يا... أنا ماني عبشحد، خود هي مصاري».


تسمَّرتُ في مكاني، تلمستُ مكان رصاصته في قلبي، شعورٌ بالعجز أقعدني، ففقدتُ توازني. ستختارُ وقتها نفسك، ستغشُ، ستتشفى في سرّكَ بالجنود والأطفال والموتى والشهداء والأشجار والرائحة، ستختنقُ من قيحك الداخلي.


الحليبُ كان لعنةً في ذلك الوقت، من يستطيع أن يقف أمام طفله باكياً، لا طعمَ وقتها للانتصار.


تذكرتُ بائعة الكبريت وعيدان ثقابها الثلاث، ربما كانت لن تموت متجمدةً لو فكَّرت بإحراق شجرة لتُدفئ جسدها الصغير، ولكنها أيضاً كانت لن تعلقَ في ذاكرتنا إلا كناجيةٍ من الموت، قلتُ في نفسي.


حين اعتنقَ نظرية الموت-الحياة، لم يكن يريدُ أن يعلقَ في الذاكرة، هو لا يحتاجُ للغار والأرز، ولا يحتاجُ للذاكرة، هو يريدُ منّا أن نكون أوفياء لطفله.


جمعتُ الأوراق النقدية التي بصقها في وجهي وأعدتها، أردتُ أن أبرّرَ له بأن لا حليب في المكان، وأننا ها هنا «محاصرون».


غادرني قبل أن أكمل وخرجَ من المكان، ارتكبتُ حماقة النظر إلى وجهه وهو يغيب، وكأنه كان يحاسبنا جميعاً: «إذن ما الذي تفعلونه هنا».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +