أشكال ألوان| من يشترينا

أشكال ألوان| من يشترينا

على هامش الحرب تصبح الأرقام وسيلتنا لنتحقق من هول فجيعتنا في إدراك الآخرين، لكننا في الوقت ذاته نغرق شيئاً فشئياً في فخّ تلك الأرقام.


تراءت لي تلك الحقيقة وأنا أمرُّ على خبر المختطفات السوريات في لبنان، في كل مرة أقرأ فيها الخبر على وسيلة صحفية عربية، تكون الغاية الأولى هي ذكر عددهن، 75 ليس عدداً قليلاً على أي حال، لكن ماذا لو كان العدد واحدة أو اثنتان أو حتى عشرة، هل كنا سنرى ذات الخبر بذات الأهمية يتصدر الصحف؟


لنعد بالتاريخ قليلاً، حين ابتدأت الثورة وكانت أرقام الشهداء 15/20 في الأسبوع، عندما كانت المظاهرات تخرج يوم الجمعة فقط. لم نستطع حينها أن نجعل العالم يرى ثورتنا بأحقية كما بعد عامين من انطلاقها، حين أصبحت الأرقام تتجاوز المئة والمئتين في اليوم الواحد. وعندها رأينا هول فجيعتنا في عيونهم، لكن الأرقام باتت لهم مجرد أرقامٍ تحتاج للمزيد دائماً.


 الأمر ليس شيئاً في ثقافتنا فقط، فالآن وبعد عملٍ جادٍ لعامٍ كامل من 400 صحفي، تظهر وثائق بنما بأرقام مرعبة، لتُذهلَ العالم الذي بات لا يُدرك سوى لغة الأرقام. رغم معرفتنا ومعرفة الجميع المسبقة بالفساد المستشري بين الرؤساء والمسؤولين، فما الفرق الذي أحدثته تلك الأرقام الآن؟


الفرقُ الذي أحدثته يُظهر بما يسميه علم النفس «أهمية الحجم»، فالعالمُ يميلُ إلى تقدير حجم الأمور بأعدادٍ أكبر ليوظفها في مصلحةٍ ما كما السوق مثلاً، فالتاجرُ عندما يقول 1000 ميليغرام ألياف غذائية لمنتجٍ ما، بدل أن يقول واحد غرام، سيضمن نسبة مبيعاتٍ أكبر للمنتج، رغم أن الكم واحدٌ في الحالتين.


لكننا هنا لا نتكلم عن السوق، بل نتكلم عن البشر الذين حولّهم منطق الفائدة والمصلحة والخدمة إلى ما يُطلَقُ عليه الآن التسليع النفسي. فعندما تصبح أعداد الضحايا بكثرتها تخدم قضيةً ما، يصبحُ تسليع الضحايا أشدَّ سوءاً من لعبة التاجر أعلاه. هكذا يتعامل العالم مع القضايا الإنسانية للأسف، فكلما زادت الأعداد أصبحت القضية مجديةً ومستحِقّةً لأن يُبذَل من أجلها مالٌ ووقتٌ كصفقةٍ ستدر له في المقابل خدمة الانتشار والتسويق لنفسه. وهنا يَطرَح السؤال نفسه: هي فعلاً قضية إتجارٍ بالبشر، ولكن من هو التاجر حقاً؟


 بطريقة أو بأخرى فقد أعنّا العالم على تسعيرنا حين وقعنا في فخ الأرقام بهدفٍ كان لا يتجاوز لفتَ انتباههم، لكنه لم يكن خطأنا منذ البداية، فنحن فعلياً نقلنا للعالم واقعية ما يجري بلغةٍ يفهمها. لكن ذلك لم ولن يكون كافياً مطلقاً. فالأرقام لا متناهية وهي كذلك في النفس البشرية أيضاً، وتأثيرُها كذلك. و في حين أن خبراً كـ 75 مختطفة قد يثير ضجة رأي عربي وليس عالمياً، سيكون لخبر 200 مختطفة الضجة نفسها لكن عالمياً وليس فقط عربياً، وهكذا تصبح المآسي لا نهائيةً تماماً كما الأرقام.


ما الحل إذن مع عالم يسلّع النفس البشرية؟  قبل أن نبحث عن حلٍّ سأوجّه سؤالاً لنا جميعاً وأحتفظُ بإجابته لنا أيضاً. هل تَبَادَرَ حقاً في ذهن أحدٍ منا رغبةُ معرفة اسم إحدى المختطفات؟ سلمى؟ نور؟ سناء؟ أو معرفة شيء عن حياة واحدةٍ منهن؟


نحن لا نستطيع أن نجدَ حلاً لعالم يسلّع النفس البشرية قبل أن نخرج من فخ الأرقام، فحين نكفّ أنفسنا عن التعاطي مع هذه القضايا كأرقام، عندها نعيد أهمية النفس البشرية كنفسٍ تشبهنا تتعرض لاستغلالٍ أو ظلمٍ بسبب ظرف ما. ليست الفكرة أن نضع أنفسنا مكانها فذلك بعيدٌ أشدَّ البعد عن المنطق، ولا يمكن للعقل البشري تخيل تفاصيل ليست موجودة في حياته. لكن أن نشعر بهم كأشخاصٍ لكل واحدٍ وواحدةٍ منهم حياة مثلنا فذلك هو المفصل لقضايانا، اسمٌ واحد فقط وألمٌ واحد فقط نريه للعالم بهذا الشعور، سنلمس من خلاله هول فجيعتنا في إدراكهم وسنحقق غاية الإنصاف.


أنا حقاً لا أبحث عن جوابٍ لافتراض أن المختطفات كنّ اثنتين أو ثلاثة فقط، أنا أبحث عن مخرجٍ من هذا الفخ، مخرجٍ يجعلنا نعيد الشعور لهذا العالم ولأنفسنا بفظاعة القتل والاغتصاب والتحرش والاستبداد، بغض النظر عن عدد المتعرضين له. مخرجٌ ينتشلنا من واجهة الدكاكين، ليعيد للحق حقه وللباطل بُطلانه بتجرد، دون أن يكون مرفقاً بأعدادٍ تثبت ذلك.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +