أشكال ألوان| التشبيح ظاهرة سورية

أشكال ألوان| التشبيح ظاهرة سورية

قد تكون الكلمة مشتقة من «أشباح» كما ذُكرَ في مقال ياسين الحاج صالح «في الشبيحة والتشبيح ودولتهما»، أو ربما تكون كلمةً دون جذورٍ ابتدعها الشعب السوري وتناقلها جيلاً بعد آخر، لكن «الشبيحة» كمجموعة من الشباب «الأزعر» والنافذ وواسع الصلاحيات التخريبية معروفون جيداً للسوريين. هذه العصابات التي كانت لعشرات السنين محسوبة على منطقة الساحل السوري وحسب، ومرتبطة بنظام الحكم ورجاله بشكلٍ أو بآخر، سرعان ما انتشرت بعد آذار ٢٠١١ لتعمَّ المناطق السورية كافة، أو فعلياً لتغزو كل منطقة معرضة «لانفلاتٍ» أمني تقمعه دون تشويه سمعة مؤسسات الدولة الرسمية. وبعد آذار ٢٠١١ أيضاً، انبثق من «الشبيحة» نوعٌ جديدٌ يفوق الأساسيّ انتشاراً وفاعلية، كما أن لهذا النوع المحدّث قوة تدميرية هائلة تكمّ الأفواه دونما الحاجة لممارسة العنف الجسدي. يعتبر أهم ما ميّز هذا التشبيح الجديد (التشبيح على الآراء) هو أن أتباعه ليسوا من مؤيدي نظام الحكم فقط، بل تنتمي له كافة أطياف الشعب السوري على طول مساحة الوطن وعرض شبكات التواصل الإجتماعيّ، ليصبح ظاهرة سورية عابرة للحدود، وسلاحاً فتّاكاً لا يحتاج الى رخصة أو تغطية أمنية.


مصادرة حق الآخر في طرح أفكاره ليست حكراً على السوريين وحدهم، وهذا الرفض القاسي للمختَلِف له أسبابه الإجتماعية والسياسية وحتى التاريخية في شرقنا المتوسط، فمثلاً ليس مستغرباً ممن تتلمذ في مدرسة «الرأي الواحد» السورية أن يرفض أي قولٍ مخالفٍ لمعتقداته وآراءه وعاداته، فمن اعتادَ الصمت طويلاً من الطبيعيّ أن يخاف الضجيج. لكن، ألسنا نحن من أراد التغيير؟ ألسنا الشعب الذي ضحى كثيراً ليقدّم للأجيال القادمة هدية ثمينة اسمها «الحرية»؟ فمن إذن أعطانا الحق بالتحوّل الى جيوشٍ من «شبيحة الرأي»، مستعدةٍ للشتم والتشهير والتخوين في أي لحظة يخرج فيها من يخالف رأينا؟ وأي مستقبلٍ واعدٍ ينتظرنا في سوريا إن كان دعاة التغيير أنفسهم يمارسون هذا النوع من الرجعية؟ وإذا كان «الشبيحة» الذين عرفناهم في السابق بغالبهم ينتمون الى مستويات اجتماعية وثقافية متدنية، فالشبيحة الجدد (شبيحة الرأي) ليسوا حكراً على هذه الفئات بتاتاً، بل منهم من يدعي حمل لواء الثقافة والانفتاح ومحاربة السواد أيضاً.


في القاهرة عام ٢٠١٢، حدث أن اعتدى بعض البلطجية من جمهور المعارضة على المناضل عبدالعزيز الخيّر الذي يُعتبر من أهم المطالبين بالحرية السورية منذ عشرات السنين. هذه الحادثة المشينة التي طالت الدكتور الخيّر المفقود منذ أربع سنوات، لم يكن سببها طيش بعض الشبان وتهورهم، بل سببتها الهجمة التشبيحية الممنهجة التي تعرّض لها السوريون الغير منسجمين مع رؤية ما سمي بالمعارضة  الخارجية آنذاك والجهات التي تساندها. هذه الهجمة التي خوّنت كثيراً من السياسيين السوريين باعتبارهم «شركاء» و«عملاء» للنظام لمجرّد اختلافهم في رؤية التغيير في سوريا، أدت الى أن يُعتدى عليهم في القاهرة ويتم رميهم بالبيض، وتؤدي تلك الهجمة المسعورة حتى اللحظة الى حصر التفكير الشعبي للمعارضة السورية في اتجاهٍ واحد، يكاد لا يلتقي بالواقع إلا قليلاً.


الإعتداء على أعضاء هيئة التنسيق في القاهرة عام ٢٠١٢ نتيجة التشبيح الكلامي والإعلامي لمجموعات معارضة أخرى لم يكن الحدث الوحيد من هذا النوع، بل منذ ذاك الوقت حصلت هجمات تشبيحية لا تعد ولا تحصى طالت كثيراً من أبناء الشعب السوري الذين يُشهَدُ لهم بالنزاهة والفكر النيّر، وكان جلّ ما فعلوه أن اختلفوا بالرأي مع «الآخر»، هذا «الآخر» الذي يبدو وكأنه مصممٌ على إبقاء سوريا في عهد الصمت الثقيل. 


منذ مدة قصيرة شهدتُ مشادةً كلامية كادت أن تتحوّل الى عراك بالأيدي، بدأ الخلاف بأن وصف الأوّل قتلى الجيش السوري بالشهداء، بينما أصرّ الثاني على اعتبارهم قَتَلة، لم يحتمل الأخير أن هناك من يعتبر المجرم في نظره شهيداً، وسارعَ الى الهجوم مستخدماً عبارات مثيرة للإشمئزاز في وصف قتلى الجيش، كما انطلق (المؤيد) بالمقابل وقام بقذف المعارضين و«الفوار» كما وصفهم متهكماً بأبشعِ الكلمات والتُهَم. انتهى المشهد بتدخّل بعض الأصدقاء من جنسيات متعددة لتهدأة الموقف، ومضى الإثنان في اتجاهاتٍ متفرقة كلّ منهما متمسكاً برأيه أكثر من ذي قبل. يومها تساءلتُ مطولاً؛ هل كان من الممكن أن يلتقيا في نقطةٍ ما لاحقاً، لو أعطى أحدهما للآخر حقه بتسمية ضحاياه كما يشاء؟! 



قد يقول البعض إن احترام الرأي المختلف في هذه المرحلة الحمراء من تاريخ سوريا لا يعدو كونه ترفاً ثقافياً يتذيّل قائمةً من الضرورات الملحة، وأن تثبيت هذه الممارسة الحضارية (احترام الرأي الآخر) مرتبطٌ بتغيرٍ سياسيٍ حقيقيٍ تليه التغيرات الإجتماعية والثقافية وسواها من «المكملات». ينسى هؤلاء بأن زرع هذه الممارسات سوف يرتقي بنا الى الوطن المنشود الذي يتسع لكلّ المعتقدات والآراء والاختلافات، وبالتالي يمكّننا من قيادة المرحلة القادمة بنجاح، وإنقاذ ما تبقى من ذاك الوطن المتآكل. عودة مفهوم «حرية الرأي» إلى الواجهة كمطلبٍ أساسيٍ نُساهم جميعاً بترسيخه، سوف يبعدنا عن رؤية الاختلاف كجريمة والمختلف كمجرمٍ نملك حق معاقبته. قال الإمام الشافعي: «قولي صحيح يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب». فهل يضع «شبيحة الرأي» احتمالاً صغيراً بأن يكون قولهم يحتمل الخطأ؟ لو كان هذا الاحتمال حاضراً في وجدانهم، لما شهدنا من يشتم ويضرب وقد يقتل أيضاً دفاعاً عما يعتقده صواباً مطلقاً، لو كانت آراؤهم تحتمل الخطأ لما كانت هذه الظاهرة بيننا أساساً.  


مشكلتنا تكمن بأننا نجتهد بالتبرير أكثر من بحثنا عن الحلول، فقد يقول البعض في ظاهرة «شبيحة الرأي» إنها نتاجٌ طبيعيٌ لعقود من كبت الحريات، وهذا قد يكون صحيحاً، لكن هذا الطرح يقف عند التشخيص دون العلاج، ليبدو وكأنه يعطي هؤلاء الشبيحة بطاقة مرور ليستبيحوا حياتنا ويكبلوا حريتنا. هنا يُستخدم الاستبداد القديم كسلاح ليُفرض من خلاله استبدادٌ جديد، يؤدي الى النتيجة القديمة ذاتها لكن بطرقٍ مختلفة. هذه الحيلة التي تبدو وكأنها عارية ومكشوفة للجميع، تُسيطر على جوانب عديدة من الواقع السوري بخفّة لصٍ محترف، وتجعل الذي كان ساعياً خلف التغيير يقف الآن أمامه كسدٍّ يمنع تدفقه.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +