أشكال ألوان| يجمعهم الموت... وحبّ البلاد

أشكال ألوان| يجمعهم الموت... وحبّ البلاد

أسبوعٌ مرّ على بدايةِ نيسان، الشهرُ الذي يُذكّرنا ثالثُ أيامهِ بغيابِ الشاعر السوريّ «محمد الماغوط» عام 2006، وبينما كنّا في ملحق أشكال ألوان، نُفكّرُ بالاحتفاء بذكرى الماغوط، سواء بتذكّرِ قصائده، وأعمالهِ الخالدة، أو بشهاداتٍ قيلت فيه وفي إنتاجه، أو حتّى بتذكّرِ سيرتهِ الشخصية ذاتِ الدراميّة العاليّة، وإسقاطِ ما يُمكنُ إسقاطُهُ (وهو كثيرٌ جدًا) على الوضعِ السوريّ العام. والمآل الفجائعيّ للإنسان السوريّ إن في بلادهِ المشتعلة، أو في طريقِهِ ذاتِ البعدِ الأسطوريّ صوبَ بلادِ الدنيا الواسعة.


download

بينما كنّا نفكّر بكلّ هذا، جاء خبرُ وفاةِ شاعرٍ آخر، على الطرفِ الآخر المقابلِ للشرق الأوسط، من تونس تحديدًا، حيثُ أُعلنَ عن وفاةِ الشاعرِ والمناضلِ التونسيّ «محمّد الصغيّر أولاد أحمد»، والذي يعتبرهُ البعضُ شاعرَ تونس بلا منازع، بعد صراعٍ مع السرطان دامَ قرابة سنتين، قبل أن يتمكّن الأخيرُ من إسقاطِ الشاعرِ، ونقلهِ إلى عالمٍ آخر، بعيد عن العالمِ الذي آذاهُ وأوجعهُ وشغلَ تفكيرهُ طيلةَ واحدٍ وستين عامًا امتدّت حياتُهُ على أيّامها.


media_temp_1427991017

والحقّ، أنّ الموتَ نفسهُ لم يُمهلنا كثيرًا، ولم يمنحنا فرصةً للتفكيرِ في اختيارِ واحدٍ من الشاعرين للحديث عنهُ واستذكارهِ، جريًا على عادةِ الملحقِ التي يتوخّى الحفاظَ عليها. إذ إنّهُ وفي أسبوعه الأولِ نفسه، خطفَ قامةً أخرى، تستحقُّ التوقّفَ طويلًا عندها، حيثُ إعلانُ وفاة الكاتبِ والمفكّر السوريّ «حسين العودات» عن تسعة وسبعينَ عامًا.


ومع وفاةِ العودات، لم يعد الأمرُ مربكًا إلى هذه الدرجة، لا لأنّنا نسعى أن نكونَ سوداويينَ، ولا لأنّنا نمتهنُ الحُزن، فنحنُ نُحاولُ أن نجعلهُ مثل فرح الماغوط «ليس مهنتنا». إنما لما يشترك به الراحلون الثلاثة فيما بينهم.


فإذا كانَ صاحب «غرفة بملايين الجدران» يُعتبرُ واحدًا من آباء قصيدة النثر السورية، إذا لم يكُن مؤسسًا لها، فإنّ علاقتهُ مع عمومِ السوريينَ لم تكن مبنيّةً على شعريّته الفذّة وقصيدته الرشيقة التي تعجنُ الحياةَ اليوميّة عجنًا، لتُقنعَ القارئَ أنّنا كبشرٍ نعيشُ في تلكَ البقعة الموبوءةِ من العالم، نعيشُ حياةً تُشبهُ «الأساطير اليومية». إنما كانت علاقةُ السوريينَ العامّة مع الماغوط، مبنيّةً على مسرحِهِ الذي اختلفنا أم اتفقنا معه، فإنهُ كانَ معبّرًا حقيقيًا ومباشرًا لا رمزيًا عن المأساة التي يعيشها السوريّ في ظلّ السلطات القمعية المتعاقبة، والتي كانت آخرها، السلطة التي سمحت بعرضِ مسرحِ الماغوط في محاولةٍ لافتكاك الاحتقان الشعبيّ الذي خلّفته مجازر الثمانينيات. كانَ الماغوطُ رغم تواطؤ السلطةِ هذا، مُعبّرًا عن الناس، العاديين، أصحاب الشؤون الحياتية المعقدة، والأحلام الآخذة بالتضاؤلِ شيئًا فشيئًا.


وفي هذا المنحى، اشتركَ الماغوطُ مع الراحلِ التونسيّ «أولاد أحمد»، الذي استطاعَ انتزاعَ الحبّ من قلوبِ التونسيين، نتيجةً لحبّهِ الصادقِ لهم، وانشغالهِ بهمومهم، والتعبير عنها بلغةٍ بسيطةٍ سلسلة لم تكن عصيّة على فهم الطغاةِ أنفسهِم. وإذا كانَ الماغوطُ كتبَ يومًا «سأخونُ وطني»، فإنّ أولادَ أحمد كتبَ أيضًا:


نُحبّ البلادَ


لكي لا يُحبّ البلادَ أحدْ


ولو قتّلونا، كما قتّلونا


ولو شرّدونا، كما شرّدونا


لعُدنا غزاةً لنفسِ البلدْ.


وهذا اشتراكٌ آخر بين الشاعرين، الذين اختارا ميزتين ليستا بالحسنتين للتعبير عن النقائض. فأحدهما اختارَ أن يكونَ خائنًا، ليعبّرَ عن حبّهِ لبلاده. والآخر اختارَ أن يكون غازيًا، وللسببِ ذاتِه.


ذلكَ الحبُّ، امتازَ بهِ حسين العودات أيضًا، ابنُ سهلِ حوران، الذي يعتبرُ علمًا من أعلام سوريا خلال نصفِ قرنٍ من الزمن، أتمّ عبرهُ تحصيلًا علميًّا مميزًا في وقتٍ مبكّرٍ جدًا قياسًا بأغلبية السوريين، الذين لم يكُن التعليمُ دابهم آنذاك. حيثُ درسَ العودات الجغرافيا، وتحصّلَ على ليسانس باللغة الفرنسية، قبل أن يتحصّل على إجازة دبلوم في الصحافة، ليبدأ عملهُ مدرساً، ويتدرّجُ في المناصبِ حتى يصل إلى مدير عام وكالة الأنباء السورية «سانا» بين 1966 – 1970، قبل أن يُطبقَ حافظ الأسد قبضتهُ على سوريا، وينقل العودات إلى مجلس الوزراء ليعمل مستشارًا هناك، وهو ما لا يخفى على أحدٍ أنهُ تكسيرٌ لا ترفيع.


وإذا كان العودات يشتركُ أيضًا مع الرّاحلَين في القيمة المعرفية والجمالية التي قدّماها للناسِ، من خلالِ مؤلفاتِهِ الكثيرة في الفكر والتأريخ، فإنّهُ أيضًا يشتركُ معهما في العلاقة الحسنة مع الآخر، تفكيرًا وسلوكًا، والتعاطي معهُ (أي مع الآخر) وفقَ ما هو عليهِ، مفروضًا كانَ أم طوعيًا، لا وفقَ ما يحلمُ العودات أن يكون هذا الآخرُ عليه. وقد تجلّى ذلك واضحًا في موقفهِ منذ أول انتفاضة الكرامة في سوريا، الموقفُ الذي لم يُغيّرهُ تغيّرُ الظروف، والتحوّل الوحشيّ لسوريا، بل زادَ من قناعتهِ، التي يُمكنُ اعتبارُها قناعة الماغوط وأولاد أحمد أيضًا، بأنّك إذا اختلفتَ أم اتفقتَ مع الآخر، واحترمتَ أم لم تحترم رأيهُ، فإنهُ ليس مبررًا أن تكونَ مع موته، فالاختلافُ مع الآخرين، لا يستدعي موتهم، وتلك أبسطُ قواعد الحياة!.


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +