أشكال ألوان| المرأة بين الجرح والرمز

أشكال ألوان| المرأة بين الجرح والرمز

ليسمح لي نزار قباني أن أتأملَ قليلاً في بعض ما قاله: «إني خيرتك فاختاري، ما بين الموت على صدري، أو فوق دفاتر أشعاري، اختاري الحب أو ألا حب، فجبنٌ ألا تختاري..».


في سياق علاقةٍ مفتوحةٍ على التأويل، يطل التصور النزاري ليكرّس تصوراً ذكورياً منتمياً لفضاءٍ عام، موغلٍ في القدم، وصولاً إلى عالم اللحظة الراهنة، حيث شيوع هيمنة الرجل وقيمه وتفوقه في سياق ما يتوهم أنها حضارته.


ينطقُ نزار بلسان هذه الحضارة، التي تضع المرأة بين خيارين لا اختيار فيهما، بين التملك حتى الموت، أو الموت، ولا حرية للمرأة هنا سوى في اختيار الموت الألذ! لا حرية حين لا تجد الإرادة تعينها، وحين لا تتوافر على إمكانية الاختيار، لا شيء إذن سوى ضرورة عمياء هي شراك تسعى حضارة الرجل لتجديده على الدوام، وما على المرأة سوى أن تُحسن الوقوع فيه.


هذا هو المتواري في الخطاب، والحقيقةُ المسكوت عنها ليست جبن المرأة في عدم الاختيار، بل رعب الرجل الذي يدفعها نحو سجنه الأبدي.


في ظاهر العلاقة بين الرجل والمرأة، هذا الظاهر المُعبَّر عنه في مؤسساتٍ وبنى اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية وإعلامية، تبدو فيها سطوة الرجل وقد قادته نشوة انتصاره نحو وهم تفوقه، وحسم مسألة الصراع الزائف لصالحه.


في باطن العلاقة نجدُ الأمر مختلفاً، هناك حقيقة ترصدها مقاربة مختلفة لعلم النفس حين يذهب في الحفر بعيداً إلى ما بعد الشعور أو إلى ما تحته، ليضعنا أمام دلالة صادمة، هي أن القاع النفسي للرجل مغمورٌ بالحصر، ويضمر بعداً عقدياً في التعاطي مع المرأة التي آوت روحه في رحمها، لكنها تحولت في قاعِ نفسه إلى رمزٍ للموت.


هكذا تكثفت المرأة في الرمز، فالماء رمزٌ يستبطن المرأة، وكذلك الموت والمجهول.


كيف تنشأ الرموز؟ يجيب بيير داكو في كتابه «المرأة الرمز، بحثٌ في سيكولوجية الأعماق»، وهو يذكر مثالين من السينما، ففي أحد الأفلام ثمة مشهدٌ لمركبٍ شراعي يغرق، وفي اللحظة التي ينغمر فيها المركب بالماء، يُصدر الفيلم أغاني نسائية تتحول إلى غمغمةٍ بصوتٍ باهت، ويتساءل داكو: لماذا في لحظة الغرق هذه ترافق الفيلم أصوات نساءٍ لا أصوات رجال؟


أما المثال الآخر، فهو مأخوذٌ من فيلمٍ مخصصٍ للبعد الرابع، يعرض مركبةً فضائية تنزلق في الكون، وهناك مجدداً أصواتٌ نسائية، تغمغم بلحنٍ لا يُعرف ما إذا كان لحنَ أملٍ أم لحنَ وعيد، فلماذا؟


يقول داكو: «لقد أصبحت المرأة رمزاً متنقلاً تصعب معرفته إلا من خلال زجاجٍ ضبابي من الإحساسات الإنسانية، وعلى هذا النحو ولّدت تلك الإحساسات التي تثيرها المرأة رموزاً لا حصر لها، ويتضح لنا هنا أن المرأة سرٌ غامضٌ يُرمَزُ إليه بالعناصر الطبيعية كالماء والفضاء المجهول».


إذا كانت الأنثى تثير الحصر، فإن ما يتسم بخصائص أنثوية في الطبيعة يفجر القلق، حيث يشير إلى قوةٍ خفيةٍ غامضة.


يرى بيير داكو أن السينما والإعلانات المتلفزة تعتمد على الرمز دون علمها، ويقود الرجلُ هذا الرمز في الإعلان، حيث يشدد على الجانب الغامض للمرأة التي تصبح شبحاً لا قوام له، يخرجُ من الضباب ليعود إليه.


ربما كان ذلك جلياً أكثر في الأزياء، حيث تصير المرأة سلعةً يصعب التمييز بينها وبين السلعة التي تعرضها.


كيف يمكن للرموز أن تستعيد مكانها الطبيعي في اللاشعور الإنساني؟ قد لا يكون ذلك قريبَ العهد بعد أن توغل الرمز بعيداً في لا شعورنا، لكن المؤكد أن ثمة حاجةً تدعو البشرية لإعادة ترتيب العالم، ولا بداية أفضل من إعادة بناء العلاقة بين الرجل والمرأة بناءً مختلفاً، يتيح للرموز أن تأخذ مكانها الطبيعي في نفس الرجل، وتكفَّ عن كونها بيئةً للحصر والعقد، هذه العلاقة تشكل معقلَ رجاءٍ في عالم نريده أجمل وأفضل، عالمٍ لا تكون العلاقة فيه بين الرجل والمرأة علاقة صيادٍ وطريدة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +