أشكال ألوان| أن تكون في دمشق

أشكال ألوان| أن تكون في دمشق

أن تكون في دمشق، يعني أنه عليك أن ترتدي أقنعة عدة لتتواصل مع واقعٍ جديد غريبٍ عن عالمك، وتنسجم مع شخوصٍ لا تشبهك، كي تملأ فراغ فقدان أصدقائك الذين غابوا عن حياتك. عليك أن تتقن فن المراوغة كي لا تصاب بالجنون والفصام، وأن تكون مطواعاً وسريع التأقلم، لتُجاري الطوارئ والتغيرات المخيفة التي تجتاحُ المدينة، وتبحثَ عن خياراتٍ جديدة لتقاوم اليأس وانسدادَ الأفق. عليكَ أن تطيرَ لتجتاز الحواجز المتكاثرة التي حولّت المدينة لكتلٍ إسمنتية صماء، وقطَعت أوصال أحيائها ليصل عدد الشوارع المغلقة إلى حوالي أربعين شارعاً. دمشقك تحولت إلى ثكنة عسكرية حكمت عليك بالاعتقال التعسفي، في كل ركنٍ ثمة مشهدٌ للعسكرة والحرب يجرح البصر ويدمي القلب، فالحواري التي كانت صديقةً وأماً حنوناً تحضن أحلامك وتؤنس خطاك، أصبحت سجناً يمارس سطوته وترهيبه عليك. لذلك تضطر إلى أن تُخفض صوتك حين تتحدث في السياسة أو عن الوطن، فثمة من يراقب حتى خيالك وإيقاع تنفسك. أنت ممنوعٌ من التقاط الصور في زوايا وأماكن تربيت فيها، سيظهرُ رقيبٌ من الغيب لينال منك. لقد أُجبر صديقي على حذف الصور التي التقطها في منطقة السيدة رُقية، حين رآه أحد عناصر الأمن وكادَ أن يصادر هاتفه المحمول لولا الاعتذارات والتوسلات.


في منزلك عليك أن تخفض صوت التلفاز حين تتابع الأخبار، وأن تتحدث همساً مع زوارك حين يكون الحديث سياسياً، فقد يسترقُ السمع جارك الشبيح ويلحق بك أذىً كبيراً. ينتابك خوفٌ شديدٌ حين يُقرع باب شقتك على غير موعد، ستتردد كثيراً قبل فتح الباب، وفي حارتك ستكون مضطراً إلى مسايرة مسلحي الحي والابتسام لهم كي لا يضايقوك ويتربصوا بك، وأن تصغي إلى آرائهم وتستمع دون اعتراضٍ إلى أغانيهم الصاخبة التي تخترق نافذتك رغماً عنك.


في دمشق يستطيع صديقنا اللبناني المقيم في سورية أن يتجول في أي مكانٍ بحرية ودون خوف، فهويته تبرئه من أي تهمة، بينما نحن السوريون نخاف حتى أثناء التحدث عبر الهاتف، ونخاف حين نجتمع مع أصدقائنا في أماكن عامة، فالتجمعات تعتبر تهمةً. ندرسُ خطواتنا قبل أي تحركٍ خوفاً من اعتقالٍ محتمل أو تعرضٍ لإذلالٍ وإهانةٍ من قبل حاجزٍ قد يريد إهانة الناس وترهيبهم بسبب هويتهم وانتمائهم المناطقي.


 لم تعد دمشق تلك المدينة التي لا تنام، فعند الساعة الثامنة مساء يخيم الصمت والوحشة على معظم أحيائها، وتغفو متكئةً على جراحها وأصواتُ الحرب تغتال هدوء الليل. لقد فرَّت الحياة من حدائقها ومقاهيها التي ودّعت روادها الذين كانوا جزءاً من ذاكرتها الآخذة بالتآكل، واستقبلت رواداً جدد لا يشبهونها أبداً.


تكتظُ ذاكرتك بأحداثٍ ووقائع يومية يمنعك ضياعك وتشتتك من توثيقها، فأنت شاهد عيانٍ على مدينة منكسرة تعيش على شفير الهاوية والجنون، وتخسر دفئها وحميميتها كل يوم.


تحاصركَ دمشق التي كانت أفقاً فسيحاً، خمس سنوات لم تخرج منها إلا نادراً، يضيق الحصار مع الوقت فتقتصر تحركاتك على بعض مناطقها، ثم تتقلص إلى حاراتها القديمة، ثم تنحصرُ في منطقة سكنك ثم في حارتك وأخيراً في بيتك. يحاصرك روتينك اليومي، وتفكر كثيراً قبل أن تخرج من المنزل، ثمة خطرٌ يتربص بك دائماً. تحصي الأماكن المتاحة التي يمكنك زيارتها، تكتشف أن أغلب الأماكن فقدت ألقها وألفتها وقلّت دروب التسكع، فأغلب هذه الدروب مدججٌ بالسلاح والرعب.


بعد عودة المظاهرات السلمية إلى الساحات، عاد الأمل والنبض للقلب مجدداً، لكن بقيت فيه غصةٌ وحسرة، فهنا لا نستطيع النزول إلى الشارع للاحتفال مجدداً لأن هذا سيكون انتحاراً مؤكداً، نكتفي بمشاهدة التلفاز ومواقع التواصل لنتفاعل مع الحدث. نفرحُ بصمتٍ كي لا يُسمع صوتنا، نحتفلُ بالحدث في سهراتٍ خجولة بتنا نفتعلها كي نذكّر أنفسنا بأننا موجودون، على قيد الأمل.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +