أشكال ألوان| في فطرة الطير

أشكال ألوان| في فطرة الطير

«لا رغبة عندي بالكلام»، قالَ زين وصمتَ بعد أن طلب منه الأستاذ أن يتكلم.


عندما التقاه في محلٍ لبيع المواد الغذائية، وسمِعَه يكلمني بعربيةٍ فصحى يصيبُ فيها ويخطئ، قال له الأستاذ وهو ينظرُ إلي، وشيءٌ من الدهشة اعترى ملامحه وكلماته، إنه يتكلم بالفصحى، كيف ذلك وهو في هذا السن؟ أليس صغيراً؟ هل هو في المدرسة؟ عندها أجبته أن طفلي زين عمره أربع سنوات وبضعة أشهر، وأنه بطبيعة الحال والعمر لم يذهب إلى المدرسة ولا حتى إلى الروضة.


قبل ما يقربُ من سبعة أشهر، حين قدمنا أنا وعائلتي إلى «قزل تبه» التركية، كان في واردي أن يذهب طفلي إلى روضةٍ تساعده في إعادة ترتيب علاقته بالعالم وأشيائه، لكن ومما أثار حنقي وعجبي أن رياض الأطفال هنا في قزل تبه لا تستقبلُ الأطفال الذين لا يجيدون التحدث بالكردية أو التركية، وبطبيعة الحال فإن زين لا يجيد التحدث بأيٍّ من اللغتين ولا حتى في الحدود الدنيا. وهكذا بقيَ خارج أسوار أي مؤسسةٍ رسمية للعب أو التعلم أو الترفيه أو بناء الشخصية، لم يتذوق الصغير أي طعمٍ للمؤسسة، أي الدولة، ولا بأي معنىً من المعاني، وهو الهارب من شبحها في بلاده، الشبح المتحول إلى قذيفة وصاروخ وبرميل ومقبرة. هو الذي تقاذفته جهات النزوح بين حدبٍ وصوب، ثم لفظته البلاد لصير النزوح لجوءاً لا ملحَ فيه ولا نكهة.


فقدَ وعي زين الصغير فرصةَ التكور على إرهاصٍ أوليٍ بدفءِ الدولة (سماء الشعب) حسبما يقول ماركس، لكنه كسبَ فرصةَ الانتماء إلى الكون الشاسع بإرهاصٍ أوليٍ كذلك.


فقدَ فرصة الانتماء إلى الأرض والسماء الخاصين بالبشر، وانتمى إلى سماء العصافير.


«لا رغبة عندي بالكلام، يكفي أن أسمع هذه الجملة»، قال الأستاذ. «لكن لم تقل لي إلى حد الآن كيف تمكن الصغير من تعلم بعض الفصحى؟ وتبدو عباراته بحالة نحوية جيدة، دع عنكَ ما يتردد في أذني من موسيقا صوته، يخيل إليَّ أن حشداً من العصافير قد قرر أن يبدأ الصباح من صوته الصغير»، صمتَ برهةً ثم أضاف: «اللغة روحٌ من أرواح العالم تسري في جميع الخلائق، مرةً تسري مثل كلمة، ومرةً مثل أغنية، ومن أشكالها أن تصمت كذلك، وكل الأشكال شهودٌ على أصل الحياة».


«كل ما في الأمر يا أستاذ أن زين استعاد شيئاً من فطرة العالم المخبأة في اللغة، وكما يصمتُ العصفور حين ينشغل عن الغناء بالطيران، صمتَ، زين هو العصفور الذي حدثَ أن منَحَ أغنية الصباح للصمت، الصمت فطرةٌ أخرى كالغناء».


لا عجبَ أن متصوفاً عظيماً كجلال الدين الرومي، أو شمس التبريزي المعروف بالطير، يزهدُ في صناعة الأنا ويعشق فطرة الذات، يرقصُ (السماع) في السوق على مرأى ومسمع الناس، يتعرى حتى من غلالة اللحم المسمى جسد، ثم يعتزلُ أربعين يوماً أو أكثر في غرفة مظلمة وباردة ورطبة ليسمع أصوات العالم، أو صوت فطرته أو صوت الصمت، وهو يقول أنا الصمت.


ليس الرومي سوى طفلي هذا المتأرجح على حبال الصمت والذهول والكلام.


ماذا تريدُ أن تسمع يا ولدي؟ أهي أصواتُ العالم تركضُ في صمتك الآن، أم صمتُ العالمِ في كلامك؟


إن زين يريد أن ينامَ الآن، وأن ينام معه العالم في سرير فطرته، يريدُ أن يقول للأستاذ ما قاله درويش الشاعر في واحدة من أجمل الصور: «ليس من حق العصافير الغناء على سرير النائمين».


سأتعلمُ منك أيها الطير أن العالم أقل احتياجاً للصناعة وأكثر رغبة بالغناء، من حسن حظ العصافير أنه ليس لها من صانعٍ سوى فطرتها، وأنت يا صغيرُ تجوبُ الآن عالماً من نفس الطين، ذاك الذي ليس له من قوانين سوى «تبدّى العالم عن الحق، ذات الحق، ذاك الذي يشاء لو عاد العالم إلى لذة الوجود الحق».


لا شيء مما ظننتَ يا أستاذ، كل ما في الأمر أن زين قد تعلم من التلفاز، برامج الكارتون، بعضَ العبارات، وأحمدُ الله أنه خسر الصناعة وكسب الفطرة.


ما أحوج العالم إليك أيها الصغير ليتخفّفَ من عبئٍ أثقَلَ الروح، ما أحوجني إليك كي أتخفّفَ منه، فأعطني يا صغير فطرة الطير.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +