أشكال ألوان| نحو حياةٍ لا صنمية فيها ولا كهنوت!

أشكال ألوان| نحو حياةٍ لا صنمية فيها ولا كهنوت!

يعدُّ الباحث والمفكر الإسلامي اليمني محمد عزان واحداً من أبرز المشتغلين في الثقافة الدينية، الفكر الزيدي بشكلٍ خاص، وله عشرات الإنجازات التحقيقية المتبحرة في المذاهب، كما يحظى بشعبيةٍ جارفة بين أوساط المهتمين بتجديد الوعي الإسلامي في اليمن.


إنه المؤسس الفعلي لجماعة «منتدى الشباب المؤمن»، التي تأسست عام 1990، وتشكلت منها لاحقاً جماعة الحوثيين التي صارت تسمي نفسها اليوم «جماعة أنصار الله»، لكن عزان ترك جماعة الشباب بعد مشوارٍ تنويري، وصراعٍ جدلي شائك مع حسين الحوثي «الزعيم الروحي للحوثيين».


كانت الجماعة تأسست كمحاولة للتجديد في المذهب الزيدي، وأيضاً كردة فعل على المد السلفي «الوهابي» في محافظة صعدة شمال اليمن، معقل الزيدية التاريخي. وبدأ نشاطها الجدلي من الحلقات والمساجد، ثم تدرجت في النمو من طلابٍ لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين في الدورة الأولى، إلى أكثر من خمسة عشر ألف طالب، قبل اندثارها جراء انقسامها واندلاع حروب صعدة الست ما بين عامي 2004-2010. في العام 1999 انتمى حسين الحوثي إلى عضوية الشباب المؤمن، لكنه بادر إلى فرض وجهة نظره الخاصة على سير أنشطتهم، وهو التصرف الذي أدى بعد ذلك إلى انقسامهم، قسمٌ بقيادة عزان والآخر بقيادة الحوثي. وفي عام 2000، وجراء توسعها الكبير الذي تطلّبَ مأسسة شئونها الادارية والمالية والتربوية وتحويلها الى كيان ديمقراطي، انتُخِبَ محمد عزان كأمينٍ عامٍ لجماعة الشباب، ولم يمرَّ عامٌ حتى طالب حسين الحوثي بإلغاء الجماعة، رافضاً منهجها وأهدافها، بعدما وجدَ أنها لا تمضي في الاتجاه الذي يريد.


بعدها أخذَ في تسجيل محاضراته وتفريغها في ملازم دراسية، كما اعتبرها بديلاً عن مناهج الشباب المؤمن. ولعلَّ معظم محاضراته تتمحور حول ما يسمى بحق ولاية أمر المسلمين في آل البيت، باعتبار الأمر اختياراً إلهياً، ليس للناس فيه يدٌ ولا خيار، ولا سبيل إلى خلاص الأمة مما هي فيه إلا إذا اجتمعت على ذلك.


ثم في العام 2002 رفعَ الحوثي الشعار المتأثر بشعار الخميني، والمعروف بالصرخة «الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل .. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام»، ليبدأ أتباعه بترديده عقبَ كل صلاة بعصبيةٍ متسعة، بينما كان منعُ السلطات ترديدَه أحد أهم أسباب اندلاع المواجهات المسلحة بينهما على مدى ستة حروب.


رويداً رويداً تشظّى الشباب المؤمن، أو بالأصح ابتلعهم الحوثي، وجمّدَ عزان نشاطه كجزءٍ من تداعيات حروب صعدة، التي أدت في أول مواجهاتها إلى مقتل حسين الحوثي، ليخلفه في قيادة جماعته شقيقه عبد الملك الذي ما يزال حتى الآن.


مع بداية اندلاع مواجهات الحرب الأولى بين الجيش والحوثيين قبل اثني عشر عاماً، كان عزان عائداً من لبنان فاعتُقل في مطار صنعاء، وبقي في السجن تسعة أشهر باعتباره أمين عام الشباب المؤمن، التي خرجت منها جماعة الحوثي ورفعت السلاح. وهكذا وجدَ عزان نفسه على هذا النحو يُعاقب بجريرة غيره؛ وكان الرأي العام اليمني يخلطُ بين جماعة الحوثي المسلحة وجماعة الشباب المؤمن الفكرية السلمية.


يعلّقُ عزان: «الشباب المؤمن حركةٌ ثقافية أرادت ان تكون بعيدة عن التحشيد والسياسة، وهي من أنجح التجارب لولا أنها ظُلِمَت كثيراً حتى بدا وكأن الشباب المؤمن هم حسين الحوثي، الأمر الذي أسهم في تشويه التجربة وإجهاضها».


استطاعت هذه الجماعة وقتها أن تُحدث جدلاً مفاهيمياً حاداً حول قضايا تاريخية وفكرية شائكة في الوعي الزيدي، والثقافة الزيدية، وذلك بين الجيل الجديد الذي كان يريد التسامح والانفتاح، والجيل القديم من المتشددين وأتباعهم. خاصةً فيما يتعلق بمسألة الإمامة التي يقول المتشددون إنها يجب أن تكون فيمن له استمدادٌ من البطنين، أي من أولاد الحسنين، الأمر الذي له حساسيته في المجتمع اليمني، كونه يُعيد موضعة الاصطفاء الذي اتبعته الهاشمية السياسية قبل قيام الجمهورية، كما أنه يُفاقم من الصراع القحطاني العدناني الناشب في اليمن منذ قرونٍ بالمحصلة.


معلومٌ أن المجتمع اليمني ينقسمُ إلى مجموعتين رئيسيتين هما السنة الشافعية والشيعة الزيدية، وتبلغ نسبة الشافعية حوالي 60-70% مقابل زيدية 30 –40 %. والحال أن عزان الذي وُلِدَ في صعدة عام 1967، استمر مع الحرص على التسامح بين الطوائف الإسلامية والانفتاح عليها، وعلى نفي نظرية الفرقة الناجية. وعبّرَ أكثر من مرة في خضم الجدل بينه والحوثي، عن ميله إلى رفض فكرة الغلو في مسألة الإمامة وحصرها في البطنين، لأنها لا تناسب روح العصر، وتعمل على شق المجتمع اليمني الذي يجب أن يحتكم للدستور الذي صار صاحب الإجماع والشرعية الوطنية.


وفي السياق أصدر عدة مؤلفاتٍ القيمة، التي من أبرزها مؤلفه «قرشية الخلافة- 2002»، والذي يناقش فيه على نحوٍ جريء مسألة الخلافة والامامة، ويرى عزان أن هذه المسألة ذات الأصل الشرعي والطبيعة السياسية، قد أُقيم الصراع فيها على أرضيةٍ دينية، فطوِّعَت الآيات والأحاديث؛ لتدل هنا على شيء وتعارض هناك شيئاً آخر، وقُدّمت للمجتمع على أنها جزءٌ من الدين والعقيدة.


ويوضح عزان أن: «أصل الدين لم يُلزم الناس بنمط واحد من أنماط الحكم؛ وإنما دعا إلى العمل على تشكيل نظام يمنع الفوضى ويقوم على العدل والإحسان، بصرف النظر عن التفاصيل التي تتطلبها ظروف وأحوال المرحلة، والتي يمكن مراعاتها دون أن تُفرض كأحكامٍ شرعية لازمة».


بمجرد استيلاء الحوثيين على السلطة وانقلابهم على الشراكة بقوة السلاح العام الماضي، برزَ عزان أكثر صداماً بآرائه ضد السلاح والتطرف والشحن الطائفي، حتى صارت تُصنف كعنوان للفكر الإسلامي الوطني المستنير والمعتدل. لكن سلطة الأمر الواقع الحوثية في صنعاء منعته من خطبة الجمعة في الجامع الذي كان يعمل فيه، ونصبوا خطيباً يتبعهم كبديل عنه.


قبل أيام تلقى محمد عزان نبأ مصرع شقيقه في جبهة حوثية مشتعلة على الحدود مع السعودية؛ وبدا مفجوعاً ومكلوماً وهو يسترسل في حائطه على الفيس بوك بإدانة ما سماها «ثقافة الموت» حالماً بـ«حياة لا صَنَميَّة فيها ولا كهنوت».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +