أشكال ألوان| 600 ألف وثيقة تدين الأسد: العدالة الحمراء

أشكال ألوان| 600 ألف وثيقة تدين الأسد: العدالة الحمراء

ليس ما ينفّر ديفيد كرين المتمسك بما وصل إليه، احتمالُ نجاة الأسد وحسب، بل إعادة تأهيله. بناءً على أدلة دامغة، «يتحمل الأسد مسؤولية مقتل أكثر من 220 ألف سوري خلال سني الحرب بالأسلحة التقليدية وغير التقليدية، بما فيها القصف بالسارين والكلورين والبراميل المتفجرة. من الصعب دحضُ سجل الصور الذي سربه قيصر لأولئك الموتى، غير أن الصراع الإقليمي يحوّل الرؤى والأولويات والولاءات. أخبرني كرين مؤخراً: اعتدنا رؤية الأسد كسرطان ومرض عضال. وسيعتبر الأسد بحسب قول كرين: مشكلةً دائمةً يمكن التعامل معها».


هذا ما ختم به الصحفي آدم كيرلسكي تحقيقه في العام الماضي، حوّل الصور المسرّبة للمعتقلين المعذبين حتى الموت في سجون الأسد في النصف الثاني من العام 2013، لتكون الوثائق الوحيدة المعلنة حينها، التي تٌظهِرُ تورط الأسد ومعاونيه بأدلةٍ دامغة، كما وتثبت مسؤوليتهم الجنائية الفردية.


بيدَ أن السوريين حينها، وبعد استخدام الفيتو الروسي الصيني المزدوج ضد قرار مجلس الأمن بإحالة الملف لمحكمة الجنايات الدولية، أصابهم الإحباط. والواضحُ أن الإحباط لم يُصِب السوريين فقط، فحتى ديفيد كرين المدعي العام الدولي السابق والبروفسور في القانون الدولي لم ينفِ احتمال نجاة الأسد بعد كل هذا، وأنه سيبقى مشكلة دائمة يمكن التعامل معها.


ولأن التاريخ بمعناه الحقيقي لا يمكن أن يكون تعديلياً، كما أنه لا يمكن أن يكون محض دعاية مقنعة، فإنه يعود إلينا الآن بما لم يظهر في صور أولئك المعذبين حتى الموت، وبإجابةٍ عن تساؤل الأسد لمجلة فورين أفيرز العام الماضي: «من قال إن الحكومة فعلت ذلك وليس المتمردين؟ من قال إن هذه الضحية سورية وليست شخصاً آخر؟». إجابةٌ تتمثل بـ600 ألف وثيقة مسربة عن قرارات قتلهم وتعذيبهم، لتضعَ العالم مرةً أخرى على أهبة الاستعداد بين العدالة وتطبيقها.


ما تحدّث عنه كرين حول الصراع الإقليمي، وتحويله للرؤى والأولويات والولاءات، يتلاقى مع ما تحدث عنه المحقق في جرائم الحرب الكندي بيل ويلي، والذي عَمِلَ مع عدة محاكم دولية بارزة، حيث يُشير في تحقيق الصحفي «بين تاوب» إلى إحباطه الذي تسببت به الخطوط الحمراء الجيو-سياسية التي عادةً ما تَرسُم طريق العدالة، وإلى أنه قد توصل إلى الاعتقاد أن نظام المحاكمة الدولية كثيراً ما تصيبه «عدم كفاءة الإدارة العليا».


الأمر الملفت في تحقيق الصحفي تاوب، هو المقاربة بحجم الأدلة وقوتها مع أدلة محاكمة نورمبرج بوصفها الأقوى تاريخياً حتى ظهور هذه الأدلة. إلا أن هذه المقاربة تكاد تكون عاملاً مُضاعِفاً لحجم الإحباط، من حيث سير المحاكمة حينها وصوريَّتِها بالنسبة لاختيار الأشخاص الذين تمت محاكمتهم، وتبرئة بعض المتورطين فعلياً، مما حدا بالنائب العام للأمم المتحدة حينها روبرت جاكسون لأن يصفها بأنها محكمةٌ للمنتصرين بالحرب، تناقشُ الجرائم التي اقترفها المنهزمون فقط، حيث قال: «إنَّ هذه المحكمة تمثِّل استمراراً لجهود حرب الدول الحليفة». وفي ذلك يقول المؤرِّخ الإنجليزي دافيد أرفنج: «لقد شعرَ كبار القانونيين في العالم أجمع بالخجل من إجراءات نورمبرج، ولا شكَّ أن القاضي روبرت جاكسون رئيس الادِّعاء كان يخجلُ من هذه الإجراءات، وقد اتَّضَح ذلك في مُذكراته الشخْصيَّة».


من جهةٍ أخرى، يرى كثيرون ومن بينهم الأستاذ عبد المجيد بركات مدير مكتب البيانات والمعلومات في خلية إدارة الأزمة سابقاً، وأول من قام بتسريب وثائق سرية للنظام السوري سنة 2012، أن ظهور هذه الأدلة مرةً أخرى بمثل هذا التنسيق والجهد المبذولين، يعني تجلياً واضحاً للتحرك نحو فرض حل، حيث قال في حديثٍ خاصٍ أجريته معه بعد نشر التحقيق الصحفي: خروج الأدلة الآن له دور في الضغط على نظام الأسد لفرض حل، وأظن أن الوقت أصبح مناسباً لمحاصرة الأسد.


بين الأمل الذي تحمله هذه الحقائق بقيام محاسبة حقيقية تشكّل آخر فصل من فصول الحرب لمرتكبي جرائمها في سوريا وعلى رأسهم الأسد، وإحباط المحققين الدوليين والسوريين جراء تعويلهم على الإرادة السياسية العليا لتحقيق هذه المحاسبة، تبقى هذه الأدلة صوراً لعدالة تاريخية حقيقية خالية من الخطوط الحمراء، لا يمكن أن تمسّها إرادةٌ عليا أو تعبث بصحتها.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +