أشكال ألوان| في موتي حكاية

أشكال ألوان| في موتي حكاية

قبل ستة أشهر بالضبط، كان وسيم ذو الستة أعوام لا يزال يلعب في شوارع المعرّة وحاراتها، قبل أن تأخذه غارة جوية إلى مكان آخر وتبعده عن أخيه.


أحمد ذو الخمسة أعوام وطوال كل تلك المدة كان يشتاق بصمت، كان يعلم من وجه والديه أنه يجب ألا يتحدث عن وسيم بعد الآن. لكن مجزرة المعرة الأخيرة جعلته يتكلم أخيراً، لكن لمن ؟


في صباح التاسع عشر من الشهر الحالي، كان والد وسيم يتسوق لمنزله، هذا ما كانت تعرفه زوجته على الأقل قبل أن يأتيها اتصال يفقدها وعيها بمصيبةٍ جديدة.


يذهب أحمد ووالدته «من تبقى من العائلة» بعد أن استعادت وعيها إلى المستشفى التي نُقِلَ إليها والده جثة هامدة. يمسك أحمد بيد والده ويقول: «أنا بعرف أنك رايح لعند وسيم لأنك شتئتلو.. وأنا كمان شتئلو.. خدني معك الله يخليك».


صديقان يحضران لعرس صديقهما وليد، ومن عادة أهل المعرّة أن يقوم الأصدقاء بواجب المساعدة في إحضار الفواكه والخضار للعريس.


- سعيد: كأني أسمعُ صوت الطائرة!


- خالد: الله يجيرنا.


ما لبثَ الإثنان أن سمعا صوت الصاروخ، قذف سعيد بخالد تحت طاولةٍ للخضار رآها أمامه، ومن ثم حاول الهرب إلا أنه لم يفلح. استشهد سعيد وبقي خالد المصاب ليروي للعريس وليد كيف كانوا يريدون مفاجئته بتحضيراتهم، إلا أن سعيد كان العريس الأسرع لزفّة السماء.


قصصٌ حقيقية من مئات القصص التي يخبئها الموت الجماعي بفجيعةٍ واحدة، ما وراء الموت موتٌ آخر لا تسجله الكاميرات ولا تستطيع صقله الكلمات. ما وراءَ الموت هناك من بقي حياً، يجد مواساته في مصائب الجمع بعزاء واحد، وحين يخلو المنزل بأصحابه يعود الموت ليكون موتاً فردياً بحجم كل الفجائع الأخرى.


زياد وهو من أبناء المعرّة، بعد أن دفنَ كثيراً من أصدقائه يقول لي: غادرت سوريا الآن، لم يكن سهلاً عليّ ذلك لكن رؤية الموت الجماعي وخسارتي لأحبِّ الناس على قلبي كل يوم أصابني بانهيار، أنا لستُ حياً هنا، كما أنني لم أكن حياً هناك.


يُضيفُ الإعلامي مديَن نحاس ذو العشرين عاماً، وهو أحد مؤسسي موقع المعرّة الآن: «ليس من السهل أبداً التعامل مع واقعٍ كهذا، لكن الأحياء يبقيهم الإيمان وحبهم لسوريا على قيد الأمل، ولربما يقنعون أنفسهم أن الغد أجمل، سنتجاوز هذه المحنة».


مدين الذي بدأ توثيق المجازر منذ كان في السادسة عشر من عمره، يرفضُ الخروج كغيره من الشباب المؤمنين بضرورة وجودهم في الداخل وحين سألتُه عن السبب قال: «لا يمكن أن أتركَ سوريا، لي قضية هنا ويجب أن أتولاها، فإما النصر أو الشهادة».


حسب توثيقات موقع المعرّة الآن بلغَ عدد شهداء المجزرة الأخيرة 50 شهيداً، بينهم ما لا يقل عن 8 أطفال شهداء.


لا زال البعض يؤمن بضرورة البقاء رغم كل الألم، ليبدو الموت بكل فظاعته قزماً أمام جبروتهم. في حين تكون خسائر البعض الآخر أكبر بكثير من أن يستطيع تجاوزها أو نسيانها أو حتى التعايش معها، فيقرر الخروج حفاظاً على ما تبقى به من رمق الإنسانية.


ليست فظائع الموت الجماعي أو حتى الفردي شيئاً يمكن التعايش معه، الألمُ برؤية أحبابك قطعاً متناثرة فوق الخضار أو على الأرصفة، الهلعُ من دفنهم مجهولي الهوية لعدم القدرة على التعرف عليهم، أو حتى مواراتهم الثرى وتركهم لفراغٍ كبير لن تجد الوقت للتفكير به وأنت تسمعُ صوت الطائرة تعود من جديد.


معرّة النعمان، هي المدينة ذاتها التي وقفت في وجه كل الطغاة لتدفع ثمن حريتها من أبنائها، تعودُ الآن لتنفضَ عنها غبار الموت، فتنتشر صورٌ للسوق ذاته بعد يومين فقط وهو ينبض بإرادة الحياة التي تهزم الموت. ولكن حقاً، من هو القادر على رؤية ما وراء الصورة؟ من هو القادر على سماع أصوات الفقد؟


لكل شهيدٍ من الخمسين قصة، ولكل جريح من الـ150 اللذين لازالو في المستشفيات قصة، ووراء كل قصةٍ موتٌ أو عذابٌ آخر. لكل قصةٍ اشتياقٌ لا تنصفه حياة كاشتياق أحمد ذو الخمسة أعوام لأخيه، و قلبٌ محطم لا يجبره شيء كقلب والدته، وعزاءٌ لا ينتهي كعزاء وليد، ونكهةٌ للخضار لا تشبه شيئاً الآن سوى أشلائهم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +